النخب السياسية فى حاجة إلى شراكة لخروج البلاد من المأزق
مع دخول الأزمة الليبية عامها السابع منذ قيام ثورة فبراير عام 2011، وعامها الرابع من الانقسام السياسى بين الشرق والغرب، الذى حدث عام 2014، تستمر ليبيا كونها أحد الملفات المحورية لدى عدد كبير من الفاعلين إقليميا ودوليا. وما يجعل من ليبيا ملفاً أكثر محورية من ملفات أخرى لصراعات مماثلة فى المنطقة، هو تشابك كم هائل من الخيوط الأمنية والسياسية والاقتصادية فى ثنايا الأزمة الليبية. هذا يعنى تشابك عدد أكبر من الفاعلين، خصوصا فى منطقة شمال إفريقيا والمتوسط، مما يزيد من احتمالات تعارض مصالح هؤلاء الفاعلين، وتنوع تدخلاتهم فى الشأن الليبى لحماية تلك المصالح. والجدير بالذكر، أن الحالة الليبية على وجه الخصوص استدعت التدخلات الإقليمية والدولية منذ يومها الأول، سواء من خلال التدخل العسكرى ضد نظام القذافى من قبل الناتو، أم من خلال النخب السياسية والعسكرية التى ظهرت فى مرحلة ما بعد الثورة، والتى اتسمت بغياب خبرات الممارسة والمهنية والمؤسسية، وبالتالى لجأت بدورها لتحالفات إقليمية ودولية مع اطراف عدة، لكى تتمكن من البقاء داخل المشهد فى ظل الصراع. المزج بين الاهتمام الشديد من الأطراف الإقليمية وبين الاعتمادية على فاعلين خارجيين من قبل الأطراف الليبية، يشير إلى أن المشهد السياسى الليبى دائماً لا يكون نتاجاً خالصاً لتفاعلات الداخل الليبي، بل هو فى واقع الأمر نتاج تفاعلات الداخل الليبى مع موازين القوى الإقليمية، ومجمل أدوار وتدخلات الأطراف المعنية بالشأن الليبي. وبالنظر للمشهد الليبى إقليمياً ودولياً فى المرحلة المقبلة، نجد أنه من الممكن تقسيمه لثلاث دوائر من التفاعلات، الدائرة الإقليمية العربية، وهى تشمل الدول العربية المعنية بالملف الليبى وعلى تواصل مع كل الأطراف الفاعلة فيه، وتتشكل هذه الدائرة بالأساس من مصر، الجزائر وتونس والإمارات العربية المتحدة. ثانى الدوائر هى دائر التفاعلات الإقليمية الأوروبية، وهى تشمل الاتحاد الأوروبي، ودولا أوروبية تعمل بشكل فردى خارج إطار الاتحاد مثل إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، وتركيا وألمانيا. الدائرة الثالثة هى دائرة التفاعلات الدولية، والتى تتشكل بالأساس من الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا. التوصل لإطار من التسوية السياسية الفاعلة فى ليبيا لن يتأتى إلا من خلال تفهم تشابك المصالح بين هذه الدوائر الثلاث، وتفهم نفوذ كل دائرة فى الداخل الليبي، ومن ثم التوصل لمبادرات وحلول لتنسيق الرؤى على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية. فعلى الرغم من أن تجربة اتفاق الصخيرات أثبتت أن الحل يجب أن يكون حلا ليبيا - ليبيا نابعا من توافقات بين الأطراف المتصارعة دون إقصاء، فإن للأدوار الإقليمية والدولية دوراً فاعلاً فى صناعة هذه التوافقات. الدائرة الأكثر فاعلية والتى أثبتت التجربة قدرتها على الحلحلة، وخلق حالة من السيولة السياسية هى الدائرة الإقليمية العربية، وهناك عدد من الأسباب التى تجعل من الدول العربية الأربع الأكثر قدرة على التأثير فى الداخل الليبي، وعلى المستوى الدولى أيضاً. أولاً، الدول الأربع تتعامل مع الملف الليبى من منطلق الأمن القومى الصلب، سواء مصر، وتونس، والجزائر، وهى دول لها علاقة حدودية مع ليبيا، أم الإمارات العربية المتحدة التى ترى أن التوتر فى المنطقة وتصاعد الإسلام السياسى يفرزان المزيد من الراديكالية والتطرف، وهو ما تعتبره دولة الإمارات تهديداً مباشراً لأمنها القومي. من هذا المنطلق، نذهب إلى السبب الثانى وهو تشارك هذه الدول فى عدد من الرؤى بشأن الأزمة الليبية، فهناك اتفاق على ضرورة وجود جيش شرعي، يوفر أمن الحدود ويكافح التنظيمات الإرهابية، وهناك إجماع على ضرورة التصدى لظاهرة الميليشيات من خلال إعادة هيكلتها أو نزع سلاحها وإعادة دمجها فى المجتمع، وهناك أيضا إجماع على ضرورة عدم اللجوء لأى تدخل عسكرى أجنبى والاعتماد على آليات التسوية السياسية. السبب الثالث والأهم، هو قدرة هذه الدول على التواصل مع كل الأطراف فى الداخل الليبى بلا استثناء، شرقاً، وغرباً، وجنوباً، ففى ظل غياب هيكل للدولة وحالة الانقسام السياسي، لجأت هذه الدول لعناصر مختلفة لتأمين مصالحها. وبالتالى يحتاج هذا الرباعى فى الفترة الحالية أن يعيد تفعيل دوره فى العمل ليس فقط على جمع الأطراف الليبية على مائدة واحدة للتفاوض، ولكن أيضاً للعمل على تقديم رؤى متكاملة تستطيع الأطراف الليبية التفاوض حولها، وهو أمر بإمكان هذه القوى أن تفعله، نظراً لما تمتلك من معلومات وتواصل بالداخل الليبى على مدار سنوات، حيث إن هذه الدول أقدر على إطلاق مبادرات والعمل على صناعة حلول أكثر من منظمات إقليمية ودولية كجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة. وبالتالى، جزء كبير من إمكانية التوصل لعملية تسوية سياسية ناجحة فى ليبيا، هو استمرار التنسيق بين هذه الدول فيما يتعلق بالشأن الليبى، وترجمة هذا التنسيق فى مبادرات للتسوية السياسية وللإصلاح المؤسسى خصوصا فى القطاع الأمنى. الدائرة الإقليمية الأوروبية تتمتع هى الأخرى بنفوذ واسع فى الداخل الليبي، ولكن الأزمة الرئيسية التى تعانيها أوروبا فيما يتعلق بليبيا، هى عدم القدرة على اتخاذ موقف موحد والتحرك فى إطاره بشكل مجمع من خلال الاتحاد الأوروبي، ففى الوقت الذى كان الاتحاد الأوروبى يتناقش بين أعضائه عن سياسات مكافحة الهجرة غير الشرعية فى جنوب المتوسط، وبالتحديد السواحل الليبية، قامت إيطاليا بتطبيق سياستها الخاصة فى هذا الشأن، وأرسلت سفنا حربية إيطالية لمراقبة السواحل الليبية، وتتباهى السلطات الإيطالية بنزول معدل الهجرة غير الشرعية خلال عام 2017 بالمقارنة بعام 2016 بفضل تحركاتها. ولكن الاتحاد الأوروبى يحاول فى الفترة الحالية أن يكون له موقف أكثر فاعلية كمؤسسة فى الملف الليبى، وهو ما ترجمه الاتحاد الأوروبى من خلال الدعم الكامل لخطة التسوية التى طرحها غسان سلامة، وتخصيص ملايين من اليوروهات لإعادة الإعمار والتنمية فى ليبيا، وإرسال عدد من اللجان لدراسة فرص التنمية التى من الممكن للاتحاد أن يدعمها. وتعكس هذه الجهود محاولات الدول الأوروبية التوصل لتسوية سياسية فى ليبيا لمكافحة الهجرة غير الشرعية من المنبع، حيث بات ملف المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين أحد أهم العوامل التى تؤثر على توجهات الناخبين، فى عدد كبير من الدول الأوروبية فى الوقت الحالي. تظل الدائرة الدولية هى الأقل تأثيراً (على الأقل فى الوقت الحالى) فيما يتعلق بممارسة دور مباشر فى الأزمة الليبية. أبدت روسيا علامات واضحة تدل على اهتمامها بالشأن الليبي، من خلال حرصها على الاجتماع بكل من خليفة حفتر وفايز السراج، وتكررت اللقاءات الروسية مع حفتر أكثر من مرة، وهو ما يعكس الاهتمام بالشق العسكرى أكثر من الشق السياسى فى علاقة روسيا بليبيا، ويتماشى مع التوسعات التى تمارسها روسيا فى نفوذها فى منطقة الشرق الأوسط، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ومما لا شك فيه يمثل التفاعل مع ليبيا مدخلا للوجود فى شمال إفريقيا وجنوب المتوسط. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب لم تبد الكثير من الاهتمام بالشأن الليبى بالمقارنة بمناطق أخرى للصراع، فإن الولاياتالمتحدة لن تتخلى عن دورها فى المنطقة بأى الأحوال، وتبدو الولاياتالمتحدة فى مرحلة ترقب للحظة فرز نخبة حاكمة تُنهى مرحلة الانقسام، ثم تقوم الولايات المتحددة بتحديد طريقة التفاعل معها. ولكن يظل البُعد الحاكم للتفاعل الروسى والأمريكى مع ليبيا هو مرحلة ما بعد الصراع، وكم المصالح التى تتعلق بإعادة تسليح الجيش، وإعادة الإعمار، وفرص التواجد العسكرى. وبالتالى من المتوقع ألا تتفاعل القوتان مع ثنايا مراحل التفاوض والتسوية مثلما تفعل دول الجوار وأوروبا، ولكن القوتين تسعيان لأن يكون النتاج النهائى لهذه التسوية حلاً يخدم مصالحهما. الأبعاد الإقليمية أحد أهم سُبل الخروج من حالة الانسداد السياسى التى تعانيها ليبيا فى هذه المرحلة، وبالأخص آلية دول الجوار. من المفترض أن هناك لجنة رباعية سوف تعقد حول ليبيا مكونة من جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي، الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، ولكن المردود المتوقع لهذه اللجنة فى التأثير الإيجابى على فرص التسوية السياسية ضعيف جدا. فليبيا ليست فى حاجة للتنسيق بين مؤسسات لم تلعب يوماً دوراً فاعلاً فيها، بل هى فى حاجة لدوائر النفوذ الإقليمي، أن تمارس الضغوط على النخب السياسية التى تُعد خلافاتها هى السبب الرئيسى فى الجمود الذى تعانيه جهود التسوية.