بعد مخاض عسير لمفاوضات تجاوزت العام توصلت القوى الغربية الست وإيران إلى اتفاق حول البرنامج النووى الإيرانى يرتكز على تخلى طهران عن طموحاتها النووية مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها وإنهاء العزلة الدولية, لينهى بذلك مرحلة طويلة من حالة اللاحسم, ويؤسس لتفاعلات جديدة من شأنها أن تنطوى على تداعيات سياسية وإستراتيجية عديدة على المنطقة العربية. وبحسابات المكسب فإن توقيع الاتفاق يمثل خطوة تاريخية لإيران ويتيح لها استعادة وضعها الطبيعى داخل المنظومة الدولية بعد أكثر من عقد من العقوبات والعزلة, كما يسهم فى استعادة عافيتها الاقتصادية ورفع الحصار عن صادراتها البترولية والإفراج عن أموالها المجمدة فى الخارج, كما أنه يتيح لها تسويات اقتصادية بتدفق الاستثمارات الغربية خاصة الأوروبية إلى السوق الإيرانية, ويتيح لها أيضا شراء الأسلحة الحديثة, وبلغة المكسب أيضا سوف تسعى طهران للحصول على اعتراف غربى بأهمية دورها ونفوذها وتأثيرها كمفتاح لحل الكثير من الأزمات ومواجهة الإرهاب. وفى المقابل تتمثل حسابات المكسب للغرب والولاياتالمتحدة من وراء الاتفاق فى التحجيم النسبى للقدرات النووية الإيرانية وإمكانية إنتاج وامتلاك الأسلحة الذرية, كما يتيح الاتفاق نصرا مؤقتا لأوباما يحاول أن يختم به فترته الرئاسية, بعدما نجح فى كسر العزلة واستعادة العلاقات مع كوبا ليحرز بعض الإنجازات التى تغطى على إخفاقاته فى الملفات والقضايا الأخرى وعلى رأسها الملف العراقى وعملية السلام. ولذا فإن دوافع برجماتية ومصلحية دفعتا الطرفين للبحث عن أرضية وسط وصيغة يمكن من خلالها كسر حاجز العداء النفسى وتحقيق المصالح الاقتصادية والسياسية, وهو ما يعكس التوجه البرجماتى للسياسة الإيرانية ويتجاوز مرحلة الشعارات والإيديولوجيات, وتراجعت لغة الشيطان الأكبر التى تنعت بها إيرانالولاياتالمتحدة, حيث غازل هاشمى رافنسجانى, رئيس مصلحة تشخيص النظام, واشنطن بإعلان استعداد بلاده لإعادة فتح السفارة الأمريكية فى طهران, لكن نظرا لاعتبارات إقليمية وداخلية فإن التقارب السياسى بين إيران والغرب لن يكون على نفس وتيرة التقارب على المسار الاقتصادى. أما بحسابات الخسارة من وراء هذا الاتفاق فإنها تنعكس بشكل أكبر على الجانب العربى, فأولها أن الاتفاق عالج وقف البرنامج النووى الإيرانى, ومن ثم قضية الانتشار النووى فى المنطقة فى إطار فردى ودون معالجة تلك القضية بشكل جماعى وإقليمى يضمن تخلى إسرائيل عن أسلحتها النووية وتهديدها للأمن القومى العربى, وثانيها أن إيران ما بعد الاتفاق سوف تسعى إلى تعظيم نفوذها السياسى والاستراتيجي فى المنطقة على حساب المصالح العربية فى ظل انخراطها الكبير بشكل سلبى فى الكثير من الأزمات العربية فى سورياوالعراق واليمن, فهى تدعم سيطرة طائفة محددة فى العراق على حساب الطوائف الأخرى, ومن ثم تغذى استمرار تعقد الأوضاع وحالة النزيف الدموى واحتمالات تقسيمه, وفى سوريا تستميت طهران للإبقاء على نظام بشار الأسد الذى فقد شرعيته, ولم يعد جزءا من الحل بعد أن أصبح جزءا أساسيا من استمرار الأزمة, وفى اليمن فإنها تقوى شوكة جماعة الحوثى واستمرار تحديها الشرعية ورفض التوصل إلى أي حلول سياسية لإنهاء الأزمة ووقف دوامة العنف والدمار الحالية, وبالتالى فإن الاتفاق النووى لم يتضمن التفاهمات السياسية التى تضمن تحويل الدور الإيرانى فى المنطقة العربية من دور سلبى ومعقد للأزمات العربية إلى دور إيجابى يساعد فى التوصل إلى حلول سياسية توافقية شاملة تضمن استقرار وحدة هذه الدول والتعايش بين طوائفها وفئاتها المختلفة. وثالثها ان الاتفاق يعكس التوجه الأمريكى الجديد فى الانفتاح على إيران والتقارب معها ومساعى واشنطن لتوظيف النفوذ الإيرانى فى محاربة التنظيمات الإرهابية مثل داعش فى العراقوسوريا, لكنه يتغافل عن مواجهة التنظيمات الإرهابية الشيعية التى تمارس القتل والتدمير اللذين لا يقلان عما تمارسه التنظيمات السنية المتطرفة, وهذا التوجه الأمريكى غالبا ما يأتى على حساب المصالح العربية, ومخاوف الدول العربية الحقيقية من توجهات إيران التدخلية والتوسعية ومساعيها لتعظيم نفوذها فى المنطقة. كما أن الاتفاق سوف يؤثر بشكل كبير فى المستقبل على خريطة التفاعلات الإستراتيجية فى المنطقة, وعلى أدوار القوى الإقليمية فيها, وعلى إعادة ترتيب التحالفات خاصة فى ظل تطلع إيران لتعظيم نفوذها الإقليمى استنادا إلى علاقاتها القوية مع روسيا وتقاربها الجديد مع الغرب وتشابكاتها فى العديد من الازمات العربية. وإذا كان الموقف العربى يدعم التوصل إلى حل سلمى للأزمة النووية الإيرانية ويمنع انجرار المنطقة إلى حرب جديدة, ويؤيد امتلاك طهران برنامجا نوويا سلميا لأغراض إنتاج الطاقة, فإن العرب فى المقابل ينتظرون من إيران أن تكون طرفا إيجابيا فاعلا فى معادلات المنطقة وفى إطار إقامة علاقات جوار ومشاركه قائمة على الاحترام والمصالح المتبادلة. وبالتالى على الأطراف العربية ألا تظل فى موقف رد الفعل وانتظار نتائج ما بعد الاتفاق النووى, وعليها أن تعمل على احتواء تداعياته السلبية المستقبلية عبر التكاتف والتوحد وبلورة رؤية إستراتيجية لكيفية التعامل مع نتائج الاتفاق, وألا تعتمد فقط على تطمينات واشنطن بعد وجود مخاطر سلبية له, وحرصها على ألا يكون تقاربها مع إيران على حساب العلاقات الإستراتيجية مع الدول الخليجية, خاصة أن قمة واشنطن الأخيرة مع الدول الخليجية لم تبدد المخاوف المشروعة لها فى ظل خبراتها الطويلة مع النفوذ الإيرانى وتأثيراته السلبية على الأمن القومى العربى, والأمر المؤكد أن المنطقة بعد توقيع الاتفاق سوف تختلف بشكل كبير عما قبله سواء من حيث تفاعلاتها أو شكل خريطتها السياسية ونمط تحالفاتها. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد