مشاكل مصر الاقتصادية صناعة حكومية بامتياز، بديهية يمكن الانطلاق منها للوصول إلى أن كل السياسات الاقتصادية لمصر فى النظام السابق تم التمهيد لها بجملة من التصريحات المتفائلة، ومع مرور الوقت تتحول هذه التصريحات بقدرة قادر إلى حقيقة مؤكدة ، بفضل براعة المسئولين عن إصدار الأرقام والمؤشرات الاقتصادية التى تترجم تصريحات الوزراء وتحولها إلى واقع تملأ به الفضائيات، على اعتبار أنه يمكن استخدام نفس الأدوات السياسية المعمول بها فى صناعة الرأي العام تجاه قضية معينة فى المجال الاقتصادى، رغم أن الواقع الاقتصادى يقاس وفقا لمؤشر سعادة الناس ورضاهم عن أوضاعهم الاقتصادية. نتذكر تماما حكاية ارتفاع معدل النمو للاقتصاد المصرى إلى 7.2% كانت عبارة عن تصريح متفائل للدكتور أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق عندما شرعت حكومته فى إعداد ميزانية عام 2007، ومع مرور الوقت تحول التصريح إلى واقع إعلامى، رغم أن المظاهرات والاحتجاجات العمالية أمام مجلس الشعب كشفت زيف هذه الأرقام، وكان مبرر الحكومة إزاء ذلك بأن ثمار النمو سوف تتساقط تباعا على رؤوس المواطنين. ونتذكر أيضا ثورة الإصلاحات الاقتصادية التى أطلقها جمال مبارك، أمين لجنة السياسات والتى رفعت حجم الاستثمار الأجنبى فى مصر إلى 13 مليار دولار وانخفاض معدل البطالة وتراجع عجز الموازنة، إضافة إلى عشرات الأرقام والمؤشرات الاقتصادية الأخرى التى لم تعبر يوما عن حياة الناس، بل كانت تعبر عن رغبة المسئولين فى إخفاء شئ ما يخصهم. ولتحقيق هذا الهدف تم استخدام مفهوم السحر الإحصائى لتجميل الأرقام. والسحر الإحصائى مفهوم شيطانى يعتمد على مقولة إن الأرقام لا تكذب، رغم أن الرقم فى حد ذاته ليست له قيمة إذا لم يقارن برقم آخر وتكون له دلالة كاشفة عن وضع معين خلال سنة محددة، وأبسط مثال لذلك أن الحكومة رفعت مستوى الأجور فى القطاع الحكومى بنسبة 100%، هذا رقم استخدم فيه السحر الإحصائى لإخفاء عيوب سياسة الأجور فى مصر، حيث كان الحد الأدنى للأجور 37 جنيها وارتفع بنسبة 100% يعنى أنه وصل 75 جنيها، مما يعنى أن نسبة 100% ليست لها قيمة فى حد ذاتها، حيث لم تراع القوة الشرائية للجنة ولم تحدد سنة معينة للمقارنة، وأنه تم استخدام النسبة المئوية بدلا من الرقم الحقيقى للزيادة طبقا لمفهوم السحر الإحصائى، حيث إن نسبة 100% أكبر بكثير من الرقم 37 جنيها. واتباع مفهوم السحر الإحصائى فى الميزانية العامة خلق نوعا من الالتباس لدى البعض وجعل مؤيدى النظام الدفاع عن سياسة الحكومة الرشيدة ليس هذا فحسب، بل إن المؤشرات والأرقام الاقتصادية فى مصر تحمل أكثر من وجهة نظر، حيث إن الرقم الواحد يصدر من عدة جهات، وهذه سمة فريدة للاقتصاد المصرى على اعتبار أن الحكومة تود تسهيل مهمة المحللين الاقتصاديين كل حسب ميوله ورغباته وأيديولوجيته، حتى يستطيع كل فريق منهم رسم صورة للاقتصاد حسب أهدافه وتطلعاته. وأظن - وبعض الظن إثم - أن الحكومة المصرية لجأت إلى هذه الحيلة بهدف خلق حالة من الحراك والنشاط بين المحللين الاقتصاديين، على اعتبار أن التحليل الاقتصادى بات «سبوبة» أو نوعا من خلق فرص العمل للبطالة الموجودة بينهم، وربما ما قاله أحمد عز، أمين التنظيم فى الحزب الوطنى، فى المؤتمر السنوى للحزب عام 2008، بأن الحكومة سمحت باستيراد 50 ألف توك توك، بهدف خلق 50 ألف فرصة عمل للشباب أبرز دليل. ذلك كان قبل 25 يناير، لكن بعدها ماذا تغير؟ لم يتغير شئ، المؤيدون لميدان التحرير يرون أن ثورة 25 يناير لم تكن سببا فى تردى الأوضاع الاقتصادىة لأنها فعل مقدس أسقط النظام، ويكفيها ذلك أمام الاقتصاد، فسيتحسن فى المستقبل تماما مثل مقولة «ثمار النمو ستتساقط» والمعارضون يقسمون بأغلظ الأيمان بأن الأوضاع الاقتصادية أصبحت أكثر قسوة، ومصر على وشك الإفلاس بعد 25 يناير. وبعيدا عن هذا اللغط، فمن المؤكد أن كل فريق لديه بعض الحق، وسبب ذلك استمرار صدور الأرقام والمؤشرات الاقتصادية عن عدة جهات حكومية تتباين أهدافها ودلالاتها وتخفى ما يريد من أصدر المؤشر إخفاءه، وتبرز ما يريد إبرازه، لكن هل من المعقول أن يستمر الاقتصاد المصرى الذى يبحث الآن عن أية استثمارات تبقيه على قيد الحياة أسيرا لهذا اللغط الخاص بتعدد المؤشرات الاقتصادية المتضاربة؟ أم أن المنطق يقتضى إنشاء وزارة أو هيئة مصرية تكون مهمتها الأساسية والوحيدة تجميع كل المؤشرات والأرقام الاقتصادية من الجهات الحكومية كافة، وإصدارها بعيدا عن مفهوم السحر الإحصائى، بما تطابق مع الواقع الحقيقى حتى يثق فيها الناس وتكون الأساس لاتخاذ القرارات من قبل المستثمرين والمحللين والاقتصاديين بعيدا عن تجميل الأرقام، وبما يكون ذلك السبيل الوحيدة والحل الناجع لجذب المستثمرين من الخارج أو الداخل، كذلك يمكن بناء التصورات الاقتصادية للمستقبل بعيدا عن أى زيف أو تضليل، وحتى يطمئن الناس يمكن اعتبار وزارة المؤشرات الاقتصادية دار إفتاء مصرية للأرقام الاقتصادية.