أخذت توفيق الحكيم من يده وسرنا معا بالأسئلة والإجابة، كأننا نركب حنطور الكورنيش على شط إسكندرية يا شط "الهوا".. يا دنيا هنية.... إلخ. لم أكن أظن أن هذه المسيرة ستنتهى بنا إلى مصير الصرصار.. بدأت "بمصيدة المرأة" وصولاً إلى عالم "أهل الكهف" مسرحيته المشهورة فى 1935، وفجأة وصلنا إلى مسرحيته التى اعتبرها رجال ثورة يوليو تمهيدا لظهور البطل، وفجأة سألنى توفيق الحكيم، إنت بتشتغلى إيه؟ كدت أقول «سواق» وقد انقلبت الحكاية بداخلى إلى مسخرة، لكنه كشر عن أنيابه وتراجع قائلا: أقصد بتشتغلى فين؟ يعنى كلامى رايح فين يا بنتى؟ بمنتهى الثبات وقد تأكدت من استمرارى فى التدريب فى أخبار اليوم بفضل نجاحى فى إنطاق الصامت الحزين توفيق الحكيم، قلت: أخبار اليوم يا فندم.. رد.. عظيم.. عظيم.. لقد كانت لى فى أخبار اليوم أيام.. طالت جلستى بين نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وهو ينظر متأملا البحر كثيرا، وفجأة ينقل بصره إلى جهاز التسجيل الذى يشبه صينية البطاطس، كما أطلق عليه مغتصبا ابتسامة رغما عنه، ويبدو أن ادعاء حبه لصينية البطاطس أراد أن يؤكده لى بهذا التشبيه، حتى تحول الحديث تماما إلى توفيق الحكيم والمصور يقترب فرحا وهات يا تصوير وكأنه فراشة تحررت، ونبيل أباظة رئيس القسم بدأ يظهر من مخبأة يلوح لى من بعيد مشجعا، مؤكدا أننى الخطيب فى مباراة الكأس.
ولأننا كنا نتحدث عن موج البحر وغدره برغم الثراء الذى يكمن فى أعماقه وعلاقته بشخصية وكيان المرأة، قمت بسؤاله السؤال التقليدى الممل.. المعتاد الذى قتل بحثا: هل توفيق الحكيم عدو للمرأة؟
لكن إجابته لم تكن بنفس روتين وبرود السؤال، فإذا به يرد سائلا إياى: هل قرأتى قصتى «مصير صرصار» تعجبت لكنه ابتسم برغم حزنه وقال: فيها الرد على سؤالك، أنا لست عدوا للمرأة يا ابنتى، لا فى كتاباتى!! ولا حياتى!! لكننى بوصفى حكيما ورجلا حكيماً فأنا أحذر من المرأة تحذيراً فقط لأننى حكيم.. ألست حكيما؟
نعم أنت توفيق الحكيم... هاهاها.. لم يتوقف عند «الإيفيه» الذى قلته لكنه نظر نظرة أرستقراطية مرددا، مصير صرصار، مصير صرصار، أنا أحذر من المرأة لكن هذا لا يعنى أننى أخافها، أنا زاهد فى ملذات الحياة الخاصة الآن، والمرأة من ضمن تلك الملذات.
وبالفعل ما إن عدت إلى القاهرة بحثت عن تلك القصة «مصير صرصار» فوجدت بطلها يتابع "صرصارا" فىالبانيو يحاول الهرب من سقوطه فىالبلاعة، ثم أخذ الزوج يقارن بين نفسه وحياته فى المنزل وعلاقته بزوجته، وبين مصير الصرصار الذى يمثل تلك الحياة المنزلية، إلى أن جاءت الخادمة ومسحت البانيو بالصرصار، وفشلت محاولاته للنجاة بل وضاع تماماً وجوده، فشعر بطل القصة أن تلك نهايته فى البيت. إشاعات.. إشاعات.. قد تكون حقيقية أو قد تكون من وحى خيالى قال لى توفيق الحكيم وهو يشير إلى جهاز الكاسيت، مؤكدا أنه يشبه صينية البطاطس، التى قيل عنه إنه يحبها باللحم الضانى لكن فى الحقيقة إنه يفضل البط عن اللحم. يبدو أن توفيق الحكيم شعر أنه كان أكرم من اللازم معى، وأخذ يتحدث بدون توقف وفى التسجيل إياه، فتوقف موجها اللوم إلى نجيب محفوظ الجالس على جانبى الأيمن، أنا دخلت عالم الأدب لأكتب وأغزل فكرى على المأثورات الشعبية، وعلى من يريد التحدث معى عليه الرجوع لكتبى ومسرحياتى ويستنطق الأبطال، ستجديننى أتكلم أو ليتكلم عنى زملائى وأصدقائى. تكلم أنت عنى يا نجيب، بابتسامته الساحرة الهادئة، رد عليه نجيب محفظ وقال.. بعدين.. إنت كمل إحنا ما صدقنا أنك خرجت عن صمتك التقطت الخيط من العملاق ومثل كرة التنس رددتها على توفيق الحكيم. هل صحيح إنك بخيل..؟ وهل تريد أخذ فلوس على ماسجلته؟
ابتسم مسترجعا ذكرياته وسألنى للمرة الثانية أين مكان عملى؟ وعندما كررت عليه الإجابة انطلق فقال: فى بداية حياتى كنت أكتب مجانا، ثم أصبحت أتقاضى 400 جنيه عن القصة! عملت فى أخبار اليوم ولم أتوقف عن الذهاب إلى عملى حتى يوم زفافى وأيام شهر العسل، فأنا لا أحب التغيير وألتزم بنظام محدد ومكرر فى حياتى فاعتبرت الزواج إضافة للروتين ولن يغيره، فهذا ليس معناه أننى بخيل ولا أريد أن أتنزه أو آخذ إجازة، أنا بعد 100 مسرحية و62 كتابا تسأليننى إذا كنت أريد أخذ فلوس? ومن أخبار اليوم? على ما أسجله معك?? ظنا أننى بخيل! وقبل أن يعود لحبس لسانه والاعتصام داخل روحه الحزينة سألته مداعبة.. إنك لم تدعوننى على عصير ليمون اغتصب الضحكة.. وسأل نجيب محفوظ أن يقوم بدعوتنا معا على 2 كوب ليمون.
تركنى توفيق الحكيم وعاد إلى رحلته الروحية فى عالم أمواج بحر الإسكندرية وأطبق عليه الصمت سنوات حتى مرض.. اقتربت منه وأنا لا أدرى إن كان يسمعنى أو يتظاهر بعدم سماعى.. وقلت: كان يمكن أن تغير «مصير الصرصار» فى القصة كما غيرت مصيرى.. إن حديثك معى، جدد الأمل فى حياتى لأستمر فى الصحافة، ضحك توفيق الحكيم وأخذ يدندن لأم كلثوم، جددت حبك ليه بعد الفراق ما ارتاح، أنت لا تعلمين يا ابنتى كم يرهقنى الكلام بعد الفراق.