فى كل مرة يتم تكليفى بمقابلة عملاق من عمالقة الفكر أو الأدب أو الفلسفة، كنت كمن يتعلم فن الغطس دون العوم! كإنسان يغرق فى شبر مية أسد أنفى وأغمض عينى وأقفز فى المياه مثل الطفل الانتحارى الذى يعشق المياه ولا يجيد فن السباحة.. خلاصة الكلام كنت مثل إسماعيل ياسين فى البحرية.إلا هذه المرة، فقد كلفت بمقابلة توفيق الحكيم!! توفيق الحكيم؟؟ نعم.. والآن؟ نعم .. وفى هذا الوقت بالذات؟ نعم.. حقاً إنه مضرب عن الكلام منذ عدة أشهر حدادا وصمتا وحزنا على وفاة ابنه الوحيد، لكن لابد أن تقابليه !! وتجرى معه حواراً!! الآن؟.. الآن.
وتذكرت صلاح منصور فى فيلم «الزوجة الثانية» وسناء جميل تأمره وتقول له: الليلة يا عمدة.. وهو يسألها الليلة؟؟ هكذا فعلت معهم وأنا أردد توفيق الحكيم؟ الآن! الآن؟ الليلة يا عمدة. فى هذا الوقت أيقنت وبصمت بالعشرة أن مجلس تحرير أخبار اليوم قد قرر التخلص منى وإنهاء فترة تدريبى التى قد تطول سنين، لأن موسى صبرى رئيس مجلس إدارتها آنذاك لم ولن يعين أحدا بعد أن عين أجيال كلية الإعلام فى سنواتها الأولى التى ضمت نجوما كانوا فى عالم الصحافة وأنه اكتفى!!.. وجاءت علىَّ! ووقفت ! أنا وزميل لى طويل اللسان ومن المعارضة!! عنصرى.. متعصب..! وقد رفضه موسى صبرى وأنكر عليه عنصريته وأصبحت رهينة بضرورة تمرير تعيينه حتى أعين بعده..! أى أن توفيق الحكيم أمامكم والطرد من جنة الصحافة ومن بلاط الست صاحبة الجلالة وراءكم.
حملت العدة على كتفى وكانت عبارة عن كاسيت أربعة أمتار فى متر إلا ربع المتر وقد وفروا لى عربية مكسرة 128، ونحن فى عز شهر أغسطس وتعطفوا علىَّ بزميل مصور رحمة الله عليه، كان من الشباب الموهوب، وذهب معنا رئيس القسم نبيل أباظة كحكم ومراقب وبيقولوا مشجع وكأننى الخطيب فى زمانه! كنت قد علمت من صديقى الكبير «نجيب محفوظ» الذى توطدت صداقتى به من كثرة التردد عليه فى «الأهرام» ومشاركته الدائمة فى التحقيقات الأدبية والانفرادات الصحفية لصفحة أخبار الكتب وحكايات الأدب.. وكان عمالقة الدور السادس فى الأهرام يتعاملون معى مثل الطفل المعجزة.. وبمكالمة يائسة لنجيب محفوظ رويت له المأزق الذى وقعت فيه.. لكنه لم يبشرنى بأنه يمكن أن يفك حصار فم توفيق الحكيم للسانه وخروجه عن صمته، إلا أنه أسر بقدومه كل يوم ليجلس معه على المقهى المطل على شارع الكورنيش ينظر صامتا يبتسم لنجيب محفوظ أحيانا.. ثم يترك المجلس بصمت كما حضر مخلفا وراءه طاقة من الحزن تكفى لإخماد ثورة الأمواج المتلاطمة أمام المقهى. وعلى هذا الأمل الضعيف.. السرابى الشكل واللون والرائحة، ركبت بجانب سائق أخبار اليوم ورئيس القسم والمصور فى طريقنا لحسم "مصير حلم" فتاة للاستمرار فى التدريب فى الصحافة! فقد كانت أخبار اليوم لدى آنذاك.. هى الصحافة! ولا صحافة غيرها!! فعلا دخلت المقهى وتحققت من المشهد الذى وصفه لى نجيب محفوظ!! توفيق الحكيم مصيرى!! يجلس بجانبه وينظر للبحر فى عالم تانى.. وفجأه لاحظ فى لمحة شيئا متحركا يحمل "كاسيت" مثل الكاسيت الذى كان يحمله «عمال التراحيل» العائدون من السفر.. وورائى مصور بكاميرا تتفوق على حجم الكاسيت مرتين، ومن بعيد رئيس القسم يقف مراقبا باحثا عن مكان يبعد عن نفسه شبهة ما يحدث! . لوح توفيق الحكيم بيده رافضا ما يراه قائلا: أنا ممتنع! لا ولن أتكلم! وإذا حدث فلن يكون للصحافة!! فى سرى قلت «هيه خربانة خربانة»، وتقدمت غير عابئة برفضه ولا تحذيراته واقتحمت المجلس ساحبة مقعدا خشبيا حشرته بينه وبين نجيب محفوظ وقلت له: «أنا مش جاية لحضرتك.. أنا جاية للأستاذ نجيب محفوظ»! نظر لى مستفزا!! والمصور من بعيد بدأ فى التقاط الصور! وأنا أدوس على زرار تشغيل المدعو «كاسيت» وأضبط الشريط وأتوجه بالحديث إلى نجيب محفوظ الذى أخذ يحاول ويحاول كتم ضحكته.. يحاول كتم الضحكة!! وأنا أعطى ظهرى لتوفيق الحكيم وأتحدث مع محفوظ عن المرأة وغدر المرأة وموج البحر وعلاقة المرأة بالبحر والنيل، والمرأة والمرأة والمرأة.. حتى وجدت توفيق الحكيم دون أن يشعر يشاركنا فى الحديث ويقول رأيه، وهنا ابتسمت ولفت نظره أن الكاسيت يسجل رأيه وأنا لن أوقفه حتى لا أضيع كلمات نجيب محفوظ. مافيش مشكلة فليسجل.. قالها توفيق الحكيم لتفتح لى طاقة القدر والأمل فى الاستمرار فى التدريب فى أخبار اليوم فكلامه معناه النجاة.. والتثبيت فى عملى. قلت فى سرى .. يا سيدى رد.. يا سيدى قول.. قول.. أى حاجة قوللى حاجة أى حاجة إن شالله تقول.. ريان يا فجل.