مقالات وتقارير وكتب ومقابلات مُتلفزة لا حصر لها استفاضت لدرجة الملل في رصد وشرح الدور المحوري الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعية في إشعال ما يُسمى «الربيع العربي» حتى أصبحت أيقونتها، وفجّرت صراعات طبقية وطائفية وجيلية وغيرها، وبلورت مجتمعًا افتراضيًا خارج السياقات السياسية والاجتماعية السائدة، فصار المواطن يُحاسب المسئول، والطالب يوبخ أستاذه، والقارئ يحاكم الكاتب، ووصل الأمر لدرجة عجزت القوانين عن التعامل معها، بعدما أصبحت هذه الشبكات منصة تُطلق الأفكار الخلاّقة حينًا، والمخاطر الرهيبة أحيانًا أخرى. وظلت مؤسسات السلطة التي انهارت بفعل «ثورات الإنترنت» تنظر للأمر باستخفاف، فبرزت الفجوة بين الأجيال لتُحسم لصالح جيل تجاوز الخوف، لكن كانت هناك قوى خفيّة استغلته للحشد والتعبئة في سياق طراز جديد من الصراعات أدواتها لا تتجاوز شاشات أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، وتحول الفضاء الافتراضي لساحة كونية، انهارت معها الحدود التقليدية، وسطوة القوانين العتيقة، مما فرض ضرورة إعادة تأهيل أدوات السلطة لتتقن التعامل مع هذا الواقع الحضاري الجديد.
بعض الحقائق تُعزز الرؤية التي ندق أجراس الخطر بشأنها، فالمؤسسات الرسمية المتكلسة فوجئت بما يحدث دون فهم أبعاده وتوابعه، وعجزت عن معالجته مُبكرًا، ولجأت لأساليب عقيمة كقطع خدمة الإنترنت، لكن «الجيل الرقمي» تجاوزها بمهارات تجهلها الأنظمة، ومجددًا تدخلت «القوى الخفية» لتوفر لهم بدائل للتواصل تجاوزت أدوات تنتمي لعصر ما قبل «المواطن الكوني»، الذي يتمتع بحالة «تواصل إنساني» لم تعرفها البشرية مسبقًا.
لكن بالمقابل هناك جوانب سلبية، فوسط محيطات الشبكات الشاسعة رصدت دراسات علمية رصينة مشاعر الاغتراب لدى مدمني التواصل الافتراضي، الذي جعلهم أسرى الشاشات، وفقدوا حميمية اللقاءات الإنسانية وكيمياء التفاعل الاجتماعي بأرض الواقع، وبرغم سهولة اتصالهم بأصدقاء في شتى بقاع المعمورة، لكنهم يفتقدون لمتعة المناقشات المباشرة بأدواتها كالنظرات ولغة الجسد وغيرها،
وأشارت دراسة لمركز «بيو» للأبحاث وجامعة «روتجرز» أن وسائل التواصل الإلكترونية تُثبّط مناقشة الشئون العامة وتقلص تنوع الآراء التي يُعتقد أنها تزدهر عبر منتديات الإنترنت، فرغم أنها تتيح إخفاء الهوية نسبيًا، وبالتالي كان يُفترض تمتع مستخدميها بجرأة التعبير عما يدور بخلدهم بحرية بمنصات الإنترنت وطريقة تمنعهم من ذلك باللقاءات العامة وعبر الهاتف، لكن «دوامة الصمت» اخترقت العالم الرقمي، وكبحت الكثيرين من مناقشة قضايا جدلية لاعتبارات يطول شرحها.
وبالتالي تقلص مستوى تبادل الآراء بطريقة أخرى، ويفترض الباحثون أن بعض المستخدمين الأكثر نشاطًا بوسائل التواصل الاجتماعية يكونون أكثر وعيًا بالموضوعات المثيرة للجدل التي تمثل نهجهم الحذر بتناول قضايا بعينها لحساسيتها الثقافية، وأسهمت بطريقة أو أخرى بانعزالهم عن الاختيار الذاتي للمناقشات، فغالبًا يقتصر اطلاعهم على الآراء التي توافق قناعاتهم فقط، وتحولت منصات الإنترنت من مصدر للمعرفة المجانية، لتجعل مستخدميها معزولين اجتماعيًا لأنها تحمل بطياتها دوافع الاغتراب بالعلاقات الشخصية وتستبدلها بعلاقات سطحية ببيئة افتراضية، وتطرح معضلة الاغتراب الاجتماعي ومشاعر العجز، اللا معيارية، اللا جدوى والتمرد..إلخ.
وربطت دراسة علمية وسائل التواصل الاجتماعي بالشعور بالوحدة، حيث يرجح الباحثون أن يكون الوقت الذي يقضيه الإنسان في تصفح الإنترنت على حساب الوقت الذي يتفاعل فيه الإنسان مع الواقع، ويتصاعد الشعور بالوحدة بافتقاد المتعة والمرح التي يعيشها أصدقاؤه خلال المناسبات، وترى الدراسة التي أعدتها أستاذة الاجتماع الأمريكية شيري تركل، أن الطريقة الحميمة للناس بالتواصل عبر الشبكات تُعد شكلاً جديدًا للخلل النفسي، وتشير لحساسية مرحلة الشباب وعلاقاتهم بذاتهم والآخرين فالاغتراب مفارقة للمجتمع واللا مبالاة واللا نتماء، فالكثيرون يعيشون داخل أسوار أنفسهم، ويصابون بشلل الإحساس العميق بالحياة وملذاتها، ويقضون حياتهم كأرقام سلبية يسهل توجيهها للتعصب والعنف والعدمية. وتخلص الأطروحة لنتيجة مؤداها أن هيمنة التكنولوجيا على حياتنا تقوض إنسانيتنا، فتحت شعار «التواصل بشكل أفضل»، ترسخ هذه الشبكات عزلة مستخدميها بدمجهم في عالم افتراضي متخيل، وليس واقعًا اجتماعيًا حقيقيًا.
المشهد الافتراضي ويتفق خبراء تقنيات الاتصالات بشأن تأثير وسائل الإعلام الاجتماعية وتناميها بمعدلات رهيبة، فقد قطعت أشواطًا رهيبة بتعبئة الشعوب ودفعها للمشاركة بالحياة العامة والسياسية، ويستحيل تجاهل تأثيرها على الشعوب ودفعها للتحرك والمشاركة بالحياة العامة، لفتحها المجال لتبادل ومشاركة المعلومات والآراء خلافًا لوسائل الإعلام التقليدية ذات الاتجاه الواحد لتتشكل ثنائية المنتج والمتلقي السلبي. فوسائل الإعلام الاجتماعية، على غرار مواقع التواصل الشهيرة «تويتر» و«فيسبوك» و«انستجرام» وغيرها، تجاوزت حقيقة الدور الإخباري لوسائل الإعلام، وحققت آليات للتواصل والتفاعل والمشاركة بأنفسهم ومختلف مستوياتهم الثقافية بصنع الخبر ونشره بسرعة، متحررين من مسئولية المصداقية والتدقيق بالمعلومات المتداولة.
ولتتضح ملامح المشهد الافتراضي فقد تجاوز عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي دوليًا حاجز الثلاثة مليارات شخص، وفقاً لأحدث البيانات الرقمية العالمية من الشركة الإعلامية We Are Social ومنصة إدارة حسابات التواصل الإجتماعي Hootsuite، وتصدرتها مواقع «فيس بوك، تويتر، انستجرام، يوتيوب» يُشكّل الشباب الشريحة الكبرى، لهذا دشنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما مبادرة أسمتها «الصندوق الدولي لمشاركة وصمود المجتمع» وبرغم تعمد تجاهل الإشارة الصريحة للإسلام، لكن الهدف الحقيقي كان التحكم بالجماعات الإسلامية الراديكالية لاستعانتها بالإنترنت بعملياتها، واتخذت ست دول غالبية سكانها مسلمون مقرها.
ولا تتوقف أدوات «الحروب الرقمية» عند حدود تشكيل وتشويش الرأي العام، وتجنيد الإرهابيين، وصولا لاستهداف البرامج العسكرية، لكنها امتدت لقواعد البيانات الاقتصادية كمعلومات الشركات والبنوك، ناهيك عن القرصنة التي لم تعد لعبة الهواة والمغامرين، بل أصبحت هاجسًا حقيقيًا يشغل اهتمام جميع أجهزة الاستخبارات الدولية بعمليات التجسس وملاحقة الحروب الجديدة التي تشتعل في شتى أنحاء العالم.
ولعل أخطر آثار هذه الحروب استهداف «جهاز المناعة» للدولة لأن قوى خارجية تستخدم أطرافها بتمويل وتدريب قادة الحركات الاحتجاجية، بينما تجهل القواعد الشعبية لتلك الحركات تلك الأهداف، فهم مجرد أدوات لإشعال الصراعات الداخلية، كما يفعل قادة التنظيم الدولي للإخوان الذين يوجهون أنصارهم لاستهداف مؤسسات الدولة استنادًا لصراعات لا تتوقف عند حدود الدولة، بل تمتد لتطال شرائح اجتماعية تُمثل «الكتلة الحرجة» المؤيدة لنظام يكفل الاستقرار ويصون مصالحها الاقتصادية وأمنها القومي.
ودوليًا، بات واضحًا أن «الحروب الرقمية» تتصاعد وسط صراع القوى الدولية والإقليمية، لإعادة رسم خارطة العالم وتوزيع مواقع النفوذ، وتستهدف الهجمات الإلكترونية تحقيق نتائج بشتى الأصعدة لتُكبّد الدول المستهدفة خسائر تطال مؤسسات الدولة السيادية، عبر هجمات منهجية لخلق حالة فوضى بقواعد بياناتها ونظم تشغيلها.
وهناك أيضًا ما يسمى «الحصار الرقمي» كأحد تقنيات الحروب الجديدة، وهو ما تتوقع معه «ساشا مينراث» من مؤسسة «New America» إن العدو الذي يقوض قدرة أجهزة الكمبيوتر التي نستخدمها يستطيع أن يضر بمجتمع يتزايد اعتماده على التقنيات، وسيضاعف الهجمات الرقمية، لهذا أرى ضرورة تصدي الدول العربية لذلك الخطر المحدق بالتفكير بتوحيد معايير أنظمة الكمبيوتر وتتبع الاختراقات لدى حدوثها، لمعرفة مواطن الضعف لتعزيز الدفاعات، وحماية بيانات مؤسسات الدولة والشركات والبنوك، فضلا عن رصد محتوى الشبكات الاجتماعية بذهنية عصرية تستلهم روح الواقع الافتراضي، الذي غير مفاهيم العالم وأنماط الحياة والحروب والتواصل والتجسس والإرهاب وحتى المشاعر الإنسانية كالحب والصداقة وخلافها.