فى روايته الشهيرة «رجال تحت الشمس»، وصف غسان كنفانى مأساة شعبٍ جسّدتها رحلة تهريب ثلاثة لاجئين فلسطينيين من العراق للكويت سعيًا للقمة العيش, واختبأوا بخزان مياه، ولدى وصولهم لنقطة الحدود الكويتية طالبهم المُهرّب بالاستعداد لما سماه «الحمام التركي» وأسموه «جهنم» لكن موظفًا عابثًا عطّل المُهرّب «أبو الخيزران» ليسرد مغامراته مع الراقصة العراقية «كوكب» التى تعشقه لفحولته، رغم أنه شارك الفدائيين بحرب 1948 فأفقدته قنبلة رجولته وأورثته مرارات العالم، وانحصر طموحه بتكوين ثروة ليعيش مُطمئنًا بعد ضياع وطنه ورجولته، وبمفارقة مأساوية، مات الثلاثة اختناقًا بالصهريج دون قرع جدرانه والصراخ. تتكرر المأساة بسيناريو مختلف خلال مغامرات حُكّام قطر وطموحاتهم الخرقاء، فرغم الاختلافات الظاهرية مع ظروف الحالة الفلسطينية، فالقطريون يتمتعون بحياة رغدة ولم يُكابدوا الحروب ولا الاحتلال والشتات، لكن جوهر الحكاية ومغزاها يُفضى لنتيجة مُشابهة، فنعمة الغاز تتبدد بعبثية دون مردود سوى الشقاق والحصار والقطيعة مع امتداداتهم القبلية سعوديًا وخليجيًا، ويُهدر حُكّامهم ثروة الأجيال بسلوكهم الصبياني.
الثروة ليست بديلاً للحرية، فأجواء الرعب السائدة بمجتمع صغير تحول المرء لكائن بيولوجي، يمارس غرائزه دون اعتبار لقيمته، وتستعر مؤامرات قصور الدوحة، وتُفرز عرّابين محليين وتستورد آخرين أجانب، ويختنق القطريون داخل «الدولة الصهريج» بينما يتباهى الحُكّام وحاشيتهم بنفوذهم الإقليمى وتأثيرهم الدولي، وهذه الأمور خارج دائرة اهتمام المواطنين، فالغاز طاقة غير متجددة وستنضب، لكن أحدًا لا يقرع الجدران ويصرخ بوجوه هؤلاء العابثين، فالخوف يشّل أياديهم وينهش حناجرهم.
شاهدنا وسمعنا وعرفنا أسماء شهيرة كحمد بن جاسم وأمير قطر ووالده ووالدته، لكن هناك خلف الكواليس أسماء تنشط بصمت ولعل أبرزها حمد بن خليفة العطية، الذى رفض عدة عروض بحقائب وزارية مفضلاً بدهائه البقاء جوار الأمير كمستشار بدرجة وزير، ويطلق عليه القطريون «أمير الظل»، فكلمته مسموعة وهو ابن عمة الأمير الأب وربيبه منذ الطفولة، فعقب وفاة والدته عائشة العطية أثناء ولادته، تولى خاله تربيته مع ابنه «حمد العطية» ليضطلع لاحقًا بأدوار خطيرة داخليًا وخارجيًا، ويصبح أبرز صُنّاع القرار وسدنة العرش.
وخلافًا لسلوك رئيس الوزراء السابق فلم يمارس اللصوصية الرخيصة، كما اشتهر حمد بن جاسم الذى وصفه الرئيس الأسبق حسنى مبارك ب «حرامى الدوحة» لكنه فعلها بدهاء لصالح الأمير الوالد مُستخدمًا خطة ماكرة لإكراه التجار على بيع محلاتهم ب«سوق واقف» بزعم تحويله لمركز للتراث، وانتظر فترة لينساها الناس، وأصدر تعليماته لوسائل الإعلام بالتعتيم ليعيد تأجيرها بعقود مرتفعة، ويحقق أرباحًا هائلة أضيفت لثروة الأمير وطبعًا نال حصته، ومعها ملف إدارة العلاقات القطرية الخليجية لخبرته بشئون القبائل وأنسابها، ومكره بتدبير المكائد مستخدمًا أدوات إعلامية أبرزها «الجزيرة» وشراء الذمم وزرع العملاء بالقبائل العابرة للحدود، حتى أصبح مرسال الشيخة موزة لنظيراتها بقصور الخليج، ويحمل هداياها ودعواتها لحضور حفلات خاصة تُنفق عليها الملايين، لتنال حظوة وتثير رغبتهن لتقليدها بمظهرها وسلوكها المتحرر من تقاليد الأسر الحاكمة، وكان العطية مهندس الترتيبات، فيستقدم المطربين والمطربات العرب والأجانب، ولوازم السهرات الصاخبة بالدوحة وأوروبا، ويحيطها بالسرّية لكنه يزرع المكان بكاميرات تسجّل الأحداث بالقاعة الكبرى، وداخل الغرف المُغلقة، وسأترك التفاصيل لمخيلة القارئ، لتكون موزة أول من يشاهدها، لأن «داهية الدوحة» أدرك مُبكرًا السطوة النفسية للزوجة على الأمير فراهن عليها واكتسب ثقتها وكانت أقوى داعميه، بينما اكتفى بمكتب متواضع كانت الحاشية تُطلق عليه «الصندوق الأسود» الذى يختزن أسرار المؤامرات والحفلات والحملات الدعائية والسياسية ويُحظر دخوله سوى للأمير وزوجته، ويبدو هادئًا بثبات انفعالى لدرجة كان يظن معها الذين يجهلونه أنه مجرد خادم، لكن انتقامه ممن يسربون أبسط التفاصيل هو القتل بدمٍ بارد، حتى تناثرت عنه الأساطير المختلطة بالحقائق، فكان أبناء الأسرة الحاكمة يخشونه رغم الانسحاق الذى يبديه أمامهم.
نحن إذن حيال شخصية تمتلك المعلومات الموثقة ومنظومة العلاقات الخليجية والدولية، والإبداع بصناعة المؤامرات وكثيرًا ما التقى الأمير وزوجته ليحذرهما من شخصيات بالقصر والأسرة، ودليله جاهز دائمًا، فقد عرض عليهما مرة تسجيلاً لحمد بن جاسم خلال ممارسته الشذوذ، وأخرى لاجتماع أحد أبناء حمد بعناصر «القاعدة» بالإضافة لسياسيين ودبلوماسيين ورجال استخبارات قطريين وعرب وأجانب بأوضاع مشينة، بالإضافة لمخططات لقضايا يُدرك اهتمام الأمير وزوجته وحيرتهما بشأنها، لدرجة أعربت معها «موزة» مرة عن قلقها من دهائه، وخشيتها استخدامه ضدها، فطمأنها قائلا: «سيدتى تجمعنا رابطة تجعل تعاوننا حتميًا، فلسنا أبناء الأسرة مهما اقتربنا، وبالتالى فمصلحتنا ومخاطرنا مشتركة، وصدقته ودفعت زوجها لتسليمه الملف الخليجى ليديره.
وخلال الأزمة الراهنة سُربت تقارير خليجية تتهمه بالتسبب بمشكلة كبيرة بين قطر ودول مجلس التعاون عام 2013، وطالبت الدوحة بالتوقيع على اتفاق يلزمها ببنود محددة بعدما اكتشفت أجهزة استخباراتها خطورة دوره، فأقنع الأمير بمجاراة القادة الخليجيين، والمضّى قُدمًا بمخططاته ليكون «رافعة المنطقة» فسحبت الدول سفراءها يوم 5 مارس 2014 ، ليكون الزلزال الأخطر بتاريخ العلاقات الخليجية، لكن العطية توجه للأمير وكانت معه زوجته ليهنئه قائلاً: «أتدرك سيدى صاحب السمو ماذا فعلت بعروش الأشقاء؟ لقد اهتزت والخائفون ليسوا شركاء يُعول عليهم، فالأيادى المرتعشة تخطئ الهدف، وأصدقاؤنا بإسرائيل يحسدونك وأرجوك الاتصال بأورشليم لتستمع بأذنيك الإطراء، فعصبية المقاطعين تعكس هشاشتهم، خاصة أن لدينا حلفاء أقوياء بواشنطن والقدس وأنقرة وطهران، وهؤلاء مصدر اطمئناننا، ورعب للأشقاء المتهرئين» وبعدها زار حمد إسرائيل واستقبله قادتها بحفاوة، ومنحوه نصائحهم بالخطوات التالية مدعومة بوعود بحمايته لنهاية المطاف وتلخصت النصائح بعبارة: «أشعلها لتكون الإطفائي، وتصبح الدوحة عاصمة القرار وكعبة الخصوم، لكن سيكون أفضل إذا سميتها كعبة المضيوم».
وفورًا انطلق العطية بتنفيذ مخطط تمويل وتسليح الجماعات الإرهابية بمصر وسوريا والبحرينوالعراق وليبيا بالمال والسلاح، وهو ما كشفته لاحقًا مراكز دراسات أمريكية مرتبطة بأجهزة الاستخبارات لغضب واشنطن لأنه أبلغ إسرائيل دونها، لهذا وضعوا اسمه بلوائح تشمل 20 شخصية قطرية بعضهم ينتمى للأسرة الحاكمة فقاعدة «السيلية» أضخم مراكز التجسس الأمريكية، وكانت ترصد تحركاته وتسجل اتصالاته رغم حذره، لهذا سربت الأجهزة معلومات عن استخدام كبار المسئولين بمؤسسات قطرية لشبكات تمويل الإرهابيين بالمنطقة، وتورطها بنقل الأموال والمقاتلين لتنظيمى «القاعدة» و«داعش» بمناطق الصراع المختلفة.
وفى ملف بالغ الحساسية لارتباطه بالطائفية وثقت مكالمة بثها تليفزيون البحرين اتصاله بالمعارض البحرينى حسن سلطان المدعوم إيرانيًا، للتنسيق وتبادل المعلومات والشخصيات التى ستظهر بفضائية «الجزيرة» وطلب خلالها حمد ترشيح شخص للظهور عبرها، فيمده باسم النائب السابق خليل المرزوق، وبعدها تحول لضيف دائم.
وتبقى بالختام واقعة شهدها لبنان فى مايو 2012 وكشفت سلطاتها تورط شقيق حمد، وهو عبدالعزيز العطية، بتمويل جبهة النصرة الإرهابية عبر حملة «مهد أهل الشام» ورصدت لقاءاته بعمر القطرى المُلقب ب«ذئب القاعدة» وشادى المولوى لتسليح الإرهابيين بسوريا، واعترف المتهمان أمام محكمة أدانتهما وقضت غيابيًا بسجنه 7 سنوات، وتدخلت قطر وهددت بطرد30 ألف لبنانى لإطلاق سراح عبدالعزيز الذى ينشر تعليقات بمواقع التواصل الاجتماعى يؤكد فيها دعمه للتنظيمات الإرهابية بسوريا والعراق.