وضعت ثورة 23 يوليو 1952 المصرية على رأس أسبقياتها (وبحكمة) السعي بأسرع ما يمكن لحماية نفسها وتأمين استقرارها وهو سلوكٌ طَبَعِي، وذلك عبر مقاربة إجلاء البريطانيين عن منطقة قناة السويس والسودان، استباقاً لما يمكن من تدخل عسكري بريطاني مُحتمل لإسقاط النظام الجديد، أو لإستغلال أي تحركات داخلية متوقعة من الشرائح التي تضررت من قيام الثورة وتبخرت مصالحها، ولأن السودان هو ظهر مصر وبُعدها الإستراتيجي وللعلاقات التاريخية والإجتماعية كان استقلاله وجلاء البريطانيين عنه جُزءاً من خطة تأمين الثورة .. ودخلت القاهرة في مفاوضات مع البريطانيين بعد قيام الثورة بعدة اشهر للجلاء عن مصر .. والجلاء عن السودان. كان ذلك في نهاية عام 1952، وتحديداً بعد قيام ثورة يوليو بخمسة أشهر. من شروط بريطانيا على الجلاء عن قناة السويس، أن توافق مصر أولا على منح السودان (حُكماً ذاتياً) – خُبث بريطاني أكيد - يُمارس السودانيون في نهايته حق تقرير المصير؛ إما باختيار الإستقلال أو البقاء في علاقة اتحاد مع مصر، على أن يعقُب الموافقة المصرية على هذا المبدأ الدخول فى مفاوضات الجلاء عن منطقة القناة. كانت خيار أعضاء مجلس قيادة الثورة الحكيم أن الضرورة تحتم تمكين شعب السودان من تقرير مصيره، إما بالإتحاد مع مصر بأي صورة يختارها السودانيون، أو بالإستقلال الكامل، والذى اعتبرته ثورة يوليو أفضل من أن يكون السودان مستقلا صورياً يتحكم في مصيره البريطانيون ويحتلون أراضيه ويهددون الثورة، لذا إعترفت الثورة صراحة بحق السودان في تقرير مصيره. في هذا الأثناء برز في السودان أحزابٌ مكونة لقُطبين؛ فالأول يُريد استقلالاً يسيطر عليه حزب الأمة، والثاني يرغب ويُفضل الإتحاد مع مصر. لذلك كان اتفاق الثورة مع البريطانيين في فبراير 1953 بِاقامة الحكم الذاتي في السودان وممارسة السودانيين حق تقرير المصير (تفاصيل كثيرة .. كثيرة). وحرصت الثورة المصرية على توحيد الأحزاب السياسية السودانية الداعية إلى الإتحاد مع مصر، والتى كانت مُشتتة بدعوتها إلى القاهرة (الجبهة الوطنية التي كان يرعاها السيد علي الميرغني زعيم الطائفة الختمية، وحزب الأشقاء بزعامة السيد إسماعيل الأزهري والجناح الآخر برئاسة محمد نور الدين الذي كان من أشد المتحمسين للوحدة مع مصر، بالإضافة إلى حزب الأحرار الإتحاديين. وتمكنت الثورة من توحيد كافة الفصائل الاتحادية في حزب واحد فى نوفمبر 1952 تحت مُسمى (الحزب الوطني الإتحادي)، لكن الشد والجذب بين بريطانيا ومصر، والأحداث التي واكبت زيارة السيد محمد نجيب إلى الخرطوم، وإنقسام الرأي العام السوداني بين مؤيد ومعارض، وإنحياز طائفة الختمية إلى جبهة الإستقلال وتخليها عن جبهة الإتحاد مع مصر، ولخوف كثيرون من موقف الثورة من تنحية السيد محمد نجيب وتعاملها مع بعض قطاعات الشعب المصري (الأخوان وغيرهم) أثرٌ بالغ في الإستقلال. لكن كان هناك حركة وطنية سودانية تعتبر السودان محتلاً من الحكم الثنائي المصري البريطاني Condominium Rule، وقبل ذلك احتلاله من قبل محمد علي باشا الألباني العثماني من أجل (الذهب والرجال وريش النعام) في عام 1821. وبعد مخاض عسير وخلافات وتأثيرات أصدر أصدر البرلمان السوداني قراراً بخروج القوات البريطانية والمصرية عن السودان. كان ذلك في 16 أغسطس 1955 ، وقد تم تنفيذ انسحاب هذه القوات فى نوفمبر 1955. وفى 19 ديسمبر من العام نفسه أصدر البرلمان السوداني قراراً يُعلن فيه استقلال السودان، والطلب إلى دولتي الحُكم الثنائي الإعتراف بهذا الاستقلال، فاستجابت مصر على الفور تغليباً للمصلحة، وتم نقل السلطات الدستورية التي كان يتمتع بها الحاكم البريطاني العام إلى لجنة مكونة من خمسة أشخاص أحدهم من الجنوب، صدَّق عليها البرلمان السوداني. وفي الأول من يناير عام 1956 ارتفع علمُ السودان، إيذانا باعلان ميلاد جمهورية السودان المستقلة على خلاف ما أرادت بريطانيا بأطماعها الظاهرة والمُبطنة، ليعود السودانُ كما كان تاريخياً دولة مستقلة ومهداً للحضارة حُرّاً.