ما زال الوضع السورى عصى على الفهم أحيانا، ثمة تحولات ميدانية درامية تحدث فى العديد المناطق السورية، وكل منها يؤكد أن سوريا كبلد موحد يخضع لحكومة معترف بها من الجميع ما زال هدفا بعيدا. الأوضاع الأمنية تتحسن فى عدة مناطق توصف بأنها منخفضة التوتر أو تعرضت لمصالحات بين الحكومة السورية وفصائل مسلحة، آثرت أن تنسحب إلى مناطق أخرى أشهرها أدلب وتحت رعاية تركية، وإلى جوارها مناطق فى حمص وريفها وحلب واللاذقية، حيث يُحظر فيها استخدام السلاح ويُسمح بدخول مساعدات إنسانية للسكان فيها، ويُقابل ذلك مناطق أخرى فى الجنوب والشرق فى الاتجاه ناحية الحدود مع العراق تتعرض لشد وجذب عسكرى وسياسى فى آن واحد، ويشارك فيه القوات السورية النظامية وحلفاؤها الإيرانيون والروس من جانب، وقوات سوريا الديمقراطية وقوات أمريكية من جانب آخر. والعنوان الرئيسى هو من يسيطر على مدن درعا ودير الزور والتنف ومعبر البوكمال مع العراق والمعبر المتجه إلى الأردن. لكنه شد وجذب يبدو أنه تحت السيطرة من أهم لاعبيْن، وهما روسياوالولاياتالمتحدة، واللذان يدور بينهما مباحثات بعيدة عن الإعلام وصولا إلى تفاهمات بشأن الجنوب السورى. جزء من التحسن الأمنى النسبى عبر عنه الرئيس بشار الأسد بطريقته الخاصة، إذ قام بزيارة إلى أحد مراكز التسوق فى دمشق مترجلا قبل انتهاء شهر رمضان بأسبوع، قابل فيها مواطنين سوريين وتحدث إلى بعضهم حول احتياجاتهم اليومية فى إشارة إلى سيطرة حكومته على العاصمة وأن أحوالها طبيعية، ثم جاء العيد وإذا به يصلى صلاة العيد فى أحد مساجد حماة التى تم تحريرها من كل العناصر المسلحة والإرهابية قبل ستة أشهر. والرسالة واضحة لكل ذى عينين، فالسيطرة الحكومية يتسع مجالها، أما العناصر الإرهابية فباتت محصورة فى مواقع محدودة، ولا يمر يوم إلا وهناك معركة عنوانها القضاء على كل ما هو إرهابى، وتطهير سوريا من هذا الوباء الخبيث.
ما يجرى فى الداخل السورى له انعكاساته على الخارج، لاشك فى ذلك، كما أن بعض التطورات الإقليمية تصب فى صالح سوريا وحكومتها دون أن تسعى إلى ذلك بالضرورة. ونشير هنا إلى مقاطعة كل من مصر والسعودية والإمارات والبحرين لقطر والضغط عليها من أجل أن توقف تمويلها للمنظمات الإرهابية، وأن توقف تحريضها من خلال قناة الجزيرة لهذه المنظمات لتخريب البلدان العربية وإثارة الفوضى فيها وإسقاط النظم الحاكمة. وهو موقف ألقى الضوء بقوة حول السياسة التخريبية التى أتبعتها قطر فى السنوات الخمس الماضية فى أكثر من بلد عربى وفى المقدمة سوريا. هذا التطور الدرامى من شأنه أن يجعل قطر ولأجل إبعاد الاتهامات عنها أن توقف تمويلاتها السخية لمنظمات الإرهاب فى الأراضى السورية، بما سيؤثر سلبا على قدرات تلك المنظمات فى الاستمرار فى نهجها التخريبى، ومع مرور بعض الوقت وممارسة ضغوط ميدانية من قبل القوات النظامية ليس أمام تلك المجموعات الإرهابية سوى الهروب أو الموت.
على الصعيد الدولى، ثمة جديد مهم ومن شأنه أن يعيد ترتيب الأولويات الدولية إذا نال قدرا من القبول العام. ونشير هنا إلى التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون والتى حدد فيها أولويات بلاده فى سوريا لتكون مواجهة الإرهاب، لاسيما تنظيم داعش، وعدم التمسك برحيل الرئيس بشار الأسد كشرط للتسوية لأن لا بديل له فى الأفق ولضعف المعارضة أن تكون بديلا مقبولا وقادرا على إدارة البلاد، وعدم السماح بأن تكون سوريا دولة فاشلة، ودعم الحل السلمى والانتقال الديمقراطى التوافقى من خلال المفاوضات وبمشاركة ممثلين عن حكومة الرئيس الأسد، والتحسب لعودة مسلحين فرنسيين من سوريا شاركوا فى التنظيمات الإرهابية هناك ويمكن أن يكونوا وقودا لعمليات اإرهابية فى داخل فرنسا نفسها وبما يهدد أمنها.
رؤية الرئيس ماكرون على هذا النحو تقترب من الرؤية المصرية إلى حد كبير لاسيما الحفاظ على سوريا ومؤسساتها الوطنية وعدم السماح بانتصار الجماعات الإرهابية المسلحة بأى شكل كان، بل القضاء عليها بأى ثمن. ويلاحظ هنا أن هذه الرؤية تتقاطع أيضا مع الدور الروسى عسكريا وسياسيا، وبرغم بعض الخلافات التى ظهرت فى اللقاء الذى جرى بين الرئيسين ماكرون وبوتين فى فرساى بفرنسا حول مشكلة أوكرانيا والعقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا، فقد بدا أن الموقف الفرنسى يعتبر أن روسيا رقم مهم فى المعادلة السورية يجب التنسيق معها، ومن ثم تم الاتفاق على تشكيل مجموعة عمل فرنسية روسية لبحث ما الذى يمكن عمله فى سوريا وفى القضايا المشتركة بين البلدين.
الارتباك الأمريكى عائق كبير
ولكن يظل هذا الموقف الفرنسى الجديد بحاجة إلى حوار مكثف مع الدول الأوروبية الفاعلة فى الاتحاد الأوروبى كألمانيا وبلجيكا وإيطاليا لكى يتحول إلى سياسة أوروبية تقود تغييرا حقيقيا فى المعادلات السياسية الدولية المحيطة بالأزمة السورية، كما أنها بحاجة الى حوار جدى مع الإدارة الأمريكية والتى حتى اللحظة تبدو مرتبكة وليست لديها إستراتيجية متكاملة تجاه الأزمة السورية، إذ يخضع التصرف الأمريكى لمؤثرات التطورات الميدانية مع التمسك بشكل عام بالقضاء على داعش، والالتزام بمبدأين عريضين، وهما، أولا، ألا تنجح القوات النظامية فى الوصول إلى الرقة وتحريرها من بقايا تنظيم داعش والسيطرة عليها، حيث تفضل واشنطن أن تتمكن قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة أمريكيا من تحرير الرقة وإدارتها فيما بعد، وبما يعنى أن تظل الرقة وما حولها بعيدا عن سيطرة الحكومة السورية، وحتى لا تحقق انتصارا معنويا يدعم وجودها وقدراتها فى التفاوض فى جنيف والأستانة. أما الهدف العريض الثانى وهو ألا تتمكن المجموعات الإيرانية الداعمة للقوات النظامية من الوجود والبقاء فى مناطق قريبة من الحدود السورية الإسرائيلية، أو الحدود الأردنية السورية أو الحدود مع العراق. والفكرة الحاكمة لهذا الهدف هو منع الامتداد الإيرانى ناحية الجنوب نحو الأردن وإلى الجنوب الغربى نحو إسرائيل، فضلا عن إبعاد الإيرانيين عن السيطرة على طريق دمشقبغداد. ووفقا لبعض التقارير، فإن الرئيس بشار الأسد حاول الاتصال بإدارة ترامب عبر وسيط غير روسيا، وتم إبلاغه أن قدرته على تحجيم الحضور الإيرانى ستكون معيارا لتقييم مدى الانفتاح الأمريكى على الحكومة السورية لاحقا.
تحجيم الوجود الإيرانى
ووفقا للتحركات الروسية والأمريكية وبرغم التوتر الذى يظهر أحيانا بينهما، تبين أن هناك مسارات خلفية تحدث من خلال عُمان والأردن ويتم فيها بحث إقامة منطقة منخفضة التوتر بالجنوب فى درعا ومحيطها وصولا إلى الحدود الأردنية، وبحيث يُسمح فيها بوجود رمزى للقوات النظامية وتهدئة عسكرية مع المجموعات المسلحة، وألا يُسمح فيها بوجود أى عناصر إيرانية، وتلتزم روسيا بإبعاد هذه العناصر عن هذه المنطقة، فى حين تلتزم الولاياتالمتحدة بالسيطرة على حركة المجموعات المسلحة ومعاقبتها إن خالفت الشروط التى يُتفق عليها. وفى حال التوصل إلى اتفاق كهذا، سيكون أول اتفاق ينشىء منطقة هادئة عسكريا يضمنها كل من الروس والأمريكيين، تضاف الى المناطق الأربعة التى يضمنها الروس والإيرانيون والأتراك فى وسط سوريا وفى شمالها.
والمرجح أن يتم الانتهاء من بعض تفاصيل ميدانية ثم يتم الإعلان عن تدشين الجنوب السورى كمنطقة منخفضة التوتر، وبلا وجود إيرانى. وهو شرط تحرص عليه واشنطن لأنه مطلب إسرائيلى بالدرجة الأولى، وتتفهمه روسيا إلى حد كبير. فتل أبيب ترى أن حل الأزمة السورية يجب أن يضمن لها أمنها، من خلال خفض الوجود الإيرانى فى الأراضى السورية بشكل عام، وإقامة مناطق عازلة فى العمق السورى بما يتراوح بين 30 إلى 50 كيلو مترا تكون خالية تماما من أى وجود لعناصر إيرانية. وبالرغم من أن الوصول إلى تسوية سياسية فى سورية ما زال بعيدا، لكن إسرائيل تضع الشروط الملائمة لها وتستقطب كلا من واشنطن وموسكو ليكونا حريصين على تحقيق هذه الشروط، وكلما تطور الأمر اتسعت رقعة المطالب الإسرائيلية. ولا شك أن التورط الأمريكى العسكرى الميدانى فى الأزمة السورية والآخذ فى التوسع تدريجيا، يعطى أفضلية للمطالب الإسرائيلية، ولو بعد حين.
خريطة التفاعلات الميدانية والإقليمية والدولية على هذا النحو المعقد والمتداخل، وإن كان لا ينفى حدوث تطورات إيجابية نسبيا لصالح الحكومة السورية وحلفائها، لكنه لا يشكل حتى اللحظة اختراقا كبيرا يمهد أو يدفع بقوة نحو إنهاء المأساة السورية فى مدى زمنى مناسب. فحتى تحرير الرقة حال حدوثه من سيطرة تنظيم داعش الإرهابى، فإن إدارتها ستكون بمثابة اختبار كبير للقوة التى ستتمكن من هزيمة داعش، كما أن التحسن الأمنى النسبى فى المناطق منخفضة التوتر يتطلب مزيدا من الوقت ليصبح أسلوبا يوميا تحترمه كل العناصر والجماعات وبما يخلق قدرا من الثقة تيسر مفاوضات جنيف الأممية. أما الحضور الإيرانى فسيظل مشكلة كبرى إلى وقت طويل.