قدمت روسيا مبادرة جديدة لتسوية أزمة الملف النووي الإيراني تقضي بتقديم إيران إجابات وافية عن العديد من التساؤلات التي تطرحها الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمجتمع الدولي حول جوانب في برنامجها النووي, والاستجابة للمطالب الواردة في قرارات الوكالة ومجلس الأمن الدولي, مقابل خطوات تشجيعية من جانب مجموعة5+1 مثل خفض سقف العقوبات الدولية المفروضة علي إيران. وفي الواقع, فإن هذه المبادرة التي طرحها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في شهر يوليو الماضي تسعي إلي تحقيق هدفين: الأول, تجسير الفجوة القائمة في المواقف بين إيران ومجموعة5+1, علي أساس أن انعدام الثقة كان العقبة الأولي والأساسية التي وقفت حائلا دون نجاح المبادرات, التي قدمت في السابق والمفاوضات التي جرت بين الطرفين, وكان آخرها مفاوضات اسطنبول في يناير2011, في الخروج بنتائج تذكر. إذ إن إيران كانت, ومازالت, متشككة في نوايا الغرب تجاهها, خصوصا لجهة لسعيه لحرمانها من حق امتلاك التكنولوجيا النووية. كما أن الغرب لا يثق كثيرا في تأكيدات إيران بسلمية برنامجها النووي, ويدعي وجود جوانب خفية عسكرية له دون أن يقدم دلائل ملموسة تثبت صحة اتهاماته. والثاني, الحيلولة دون تعزيز دوافع إيران, إذا كانت موجودة, للوصول إلي القنبلة النووية, علي أساس أن السياسة المتشددة التي ينتهجها الغرب في تعامله مع أزمة الملف النووي الايراني ربما تصبح المدخل الأساسي, أو بالأحري الباب السحري, لامتلاك إيران سلاحا نوويا, لاسيما أن الدولة التي تتعرض لضغوط شديدة وحظر دولي دائما ما تشعر بعدم الأمان بشكل يمكن أن يضاعف من احتمال اتجاهها إلي الولوج في هذا الطريق, وهو ما يمثل خطا أحمر ليس فقط بالنسبة للغرب بل بالنسبة لروسيا أيضا التي لن تسمح في كل الأحوال بوجود دولة نووية علي حدودها الجنوبية, حتي لو كانت دولة حليفة لها مثل الجمهورية الإسلامية. لكن ثمة صعوبات عديدة تواجه هذه المبادرة الروسية: الأولي, اعتقاد إيران في عدم جدية الغرب في الوصول إلي تفاهمات, بمقتضي هذه المبادرة, قد تقود إلي تسوية الأزمة النووية, خصوصا أنها قدمت إجابات سابقة علي بعض الأسئلة التي طرحتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في عام2008 دون أن يؤدي ذلك إلي تقليص حدة الضغوط أو خفض سقف العقوبات المفروضة عليها. ومن هنا لا يبدو مرجحا أن توافق إيران علي أن يكون باب الأسئلة مفتوحا إلي النهاية, إذ ربما تشترط وجود سقف زمني لذلك, وهو ما يفرغ المبادرة من مضمونها العام. والثانية, وجود حالة من اللامبالاة في تعامل الغرب مع المبادرة, خصوصا أن الخبرة السابقة في المفاوضات التي جرت مع إيران تفيد أن الأخيرة تتفنن في انتهاج سياسة كسب الوقت من خلال الدخول في مفاوضات مرهقة وشاقة تنتهي في الأخير إلي لاشئ. وهذا الأمر تحديدا يفسر حرص الغرب علي وضع شروط مسبقة لقبول المبادرة, حيث وعدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون نظيرها الروسي سيرجي لافروف بدراسة المبادرة من جانب الخبراء من البلدين, بالتوازي مع وقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم, وهو ما سيواجه برفض من جانب إيران, التي تعتبر ذلك حقا أصيلا لها, ودليلا علي النوايا السيئة للغرب تجاهها. وقد انعكس ذلك في تصريحات وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي خلال زيارته لموسكو في17 أغسطس الحالي, والتي قال فيها إن الطرح الروسي يحتوي علي عناصر ايجابية وأن طهران مستعدة للتفاوض ولكنها لن تقبل بالضغوط. اللافت هنا أن هذه الحالة من عدم الاهتمام الغربي بالمبادرة الروسية تتلاقح مع ظهور اتجاه لدي الدول الغربية المعنية بأزمة الملف النووي الإيراني, يدعو إلي التريث في معالجة الملف النووي الإيراني, ويستند في ذلك إلي اعتبارين: أولهما, أن هذا البرنامج يواجه مشكلات تقنية معقدة في الوقت الحالي بشكل لا يجعل الغرب في عجلة من أمره لتسوية هذا الملف. وثانيهما, أن التطورات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في الوقت الحالي بفعل الموجات الثورية التي تجتاح الدول العربية سوف تؤدي, علي الأرجح, إلي بلورة ملامح جديدة للشرق الأوسط ربما تنتج تداعيات سلبية علي طموحات إيران الإقليمية, وبالتالي إضعاف موقفها التفاوضي مع الغرب في أزمة ملفها النووي, بشكل يمكن أن يسهل في النهاية من مسألة الوصول إلي تسوية سلمية للأزمة. والثالثة, السياسة الحذرة التي تنتهجها إيران في تعاملها مع روسيا, حيث ظهرت دعوات إيرانية عديدة بضرورة عدم التعويل علي الدعم الروسي لإيران في مواجهتها مع الغرب بسبب أزمة الملف النووي, مؤكدة أن الوساطة الروسية في أزمة الملف النووي يمكن أن تكون في صالح إيران أو ضدها, وتستند في ذلك إلي اعتبارين: أولهما, أن تاريخ العلاقات بين الطرفين يوشي بوجود حساسية خاصة, حيث كانت روسيا, في بعض الفترات, أحد أهم مصادر تهديد الأمن القومي الإيراني. وثانيهما, أن موسكو تستخدم علاقاتها مع إيران كورقة ضغط لمساومة الغرب في الملفات الخلافية القائمة بينهما خصوصا حول الدرع الصاروخية في أوروبا, والتوسع الأمريكي في المناطق المتاخمة لروسيا في آسيا الوسطي والقوقاز, وأنها لن تتواني عن التضحية بإيران في حالة التوافق مع الغرب حول هذه القضايا الخلافية. وهنا تضع إيران نصب أعينها الخطوات السلبية العديدة التي اتخذتها موسكو تجاهها, مثل المماطلة المتكررة في الانتهاء من تشغيل محطة بوشهر المزمع توصيلها بالشبكة الكهربائية قريبا, فضلا عن تراجع موسكو عن إتمام صفقة صواريخ إس300 المضادة للدفاع الجوي التي وقعتها مع إيران قبل أكثر من عامين بسبب التدخل الأمريكي والإسرائيلي لديها, إلي جانب تأييدها فرض عقوبات جديدة علي إيران من داخل مجلس الأمن, مثلما حدث في القرار1929 الصادر عن مجلس الأمن في يونيو.2010 وقد تسببت هذه الخطوات في حدوث توتر شديد في العلاقات بين الطرفين, مثلما حدث بعد رفض روسيا تسليم إيران أنظمة صواريخ إس300, حيث شن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد هجوما عنيفا علي موسكو, بقوله أنها باعت إيران عندما فسخت عقد صواريخ إس300, وخضعت للشيطان الأمريكي, مهددا بأن إيران ستزلزل عروشهم داخل قصورهم بما لديها من بدائل, وقبلها وجه انتقادا حاد لنظيره الروسي ديمتري ميدفيديف, حيث اتهمه بالتحيز لجانب الولاياتالمتحدة في سعيها لفرض عقوبات جديدة علي إيران, وهو ما ردت عليه موسكو بقولها إنه لم ينجح أي كان في الحفاظ علي سلطته من خلال استخدام الديماجوجية السياسية. صفوة القول إن ما سبق في مجمله يوحي بأن الحديث عن الوصول إلي تسوية لأزمة الملف النووي الإيراني مازال مبكرا, خصوصا أن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة لا تبدو مهيأة لذلك, فالكل في انتظار ما يمكن أن تسفر عنه موجات التسونامي الثوري التي تجتاح الدول العربية في الوقت الحالي.