تدور دائرة أيامنا منذ سبعة عشر عاما داخل حلقة فارغة محتواها بسمة نرسمها علي وجه ابننا الأكبر, فأنا ربة منزل وزوجي مهندس ونحن علي قدر من الوعي تجاه ابننا الأكبر, فابني مريض بالتوحد وصدقني ليست المأساة ندرة المرض أو ندرة من يتعاملون معه, فستستغرب كثيرا عندما تعلم اننا نولي ابننا كل الاهتمام منذ الأشهر الأولي لمعرفتنا بمرضه, وعلمنا منذ لحظة معرفتنا الأمر انه ابتلاء من المولي عز وجل ليعلم صبرنا أو جزعنا وقد يكون دعاؤنا لربنا كل يوم وتكاتف زوجي واهتمامه بمشاركتي العناية بابننا يخفف عني بعض الضغط. لدينا من الأبناء ابن وابنة أصحاء أدام الله علينا فرحتنا بهما لكن سأصدقك القول, فرحتنا لا تقارن ببسمة نرسمها علي وجه ابننا الأكبر فهو محور حياتنا كل لحظة من يومنا, نحاول قدر استطاعتنا ان نضيف حياة لحياته برغم انه لايدري ماذا نفعل من أجله لكن نسعي بكل الطرق, نظام ترتيب بيتنا قائم علي أساس الأمان له موجود مساحات فارغة بشقتنا, حجرة الطفلين الاخرين مستقلة ولكنها لا تسلم من تمزيق ابننا الأكبر لحاجاتهما الشخصية أو كتبهما الدراسية وبالطبع لا تتخيل كم معاناة تقريب الرؤية لأطفال ان اخاهم الأكبر له بعض الظروف ليتفهما أمره نوعا ما, لا يهم نظرات الناس الينا إذا حاولنا التجول بابننا للترفيه عنه داخل عربتنا. ولا يهم نظراتهم حينما اكون بعيادة للكشف عليه من نزلة برد عادية وكأنني معي كائن من الفضاء ولا يهم كلمات الشفقة التي أسمعها واضحة أو أراها صامتة بأعين الناس. لا يهم كل ذلك برغم انني وصلت أنا وزوجي لمرحلة اللامبالاة بردود فعل الاخرين السلبية تجاه ابننا الان, لكن كل ما سبق كان يبكينا الليالي الطويلة ويشعرنا بغربة شديدة وكنا نحس اننا نصرخ داخلنا كل يوم, وتمر السنوات وصحتي التي وهبتها لرعاية ابني الأكبر ليل نهار بدأت قواها تخور, وكنت أتحمل علي نفسي كثيرا حتي أخذنا قرارا بأن يساعدنا بعض الأشخاص بالوجود معه يوميا براتب شهري مجز ومنذ لحظات دخولهم نجد العجب من الاهمال بعنايتهم به فنبدلهم بأشخاص نتوسم فيهم الخير فنجد الجدد يشعرون بحاجتنا اليهم, مما يجعلنا للأسف صيدا ثمينا للابتزاز ووجودهم فترات متقطعة وأخذهم أجازات كثيرة دون داع. وكأننا نتوسل اليهم كل يوم فقط للبقاء بجانبنا لنشعر بعض الشيء أن ثقل العناية بشاب معاق ذهنيا بجسم قوي يافع قد تمت مشاركتنا فيه ولكن لا تسير الأمور دوما كما يتمناها المرء. فعبء العناية الفائقة بابننا قد عجزت عنه لحالتي الصحية وسفر زوجي لعمله بشكل شهري مما يجعل العبء ملقي علي عاتقي, لا أشكو حالي ولكن أشكو احيانا قلة حيلتي من نفسي لنفسي فسعادتي أن اري البسمة بوجه ابني الأكبر وفجأة سيدي حملتنا الثورة بعد انتهائها للحظات أمل يلوح بالأفق بأن التغيير قادم.. ففكرنا أنا وزوجي بتقديم مشروع عبارة عن تخصيص قطعة أرض كحديقة بها ألعاب آمنة ترفيهية ورياضية لمرضي التوحد, وعرضها باحدي الجمعيات الخيرية بمدينتنا المنصورة كمشروع قومي خيري متخصص للشباب ذوي الإعاقة الذهنية ومنها فئة التوحد من عمر عشرة أعوام فيما فوق, فهناك أماكن تستوعب الفئة العمرية من عام لعشرة أعوام فقط برغم ان معظمها لا يرقي للمستوي الذي نتمناها لكن موجودة, لكن عندما يصل الشاب أو الفتاة المعاق ذهنيا لعشر سنوات تغلق الأبواب أمام والديه بأنه علي ابنكما الرحيل لان قدراتنا انتهت لاستيعابه. لن أتحدث عن فئة الإعاقة الذهنية التي تستوعبها المدارس الفكرية التي بها مشاغل ومراكز تأهيل فالسبب انه هناك نسبة ذكاء محدودة لكن بعض مرضي التوحد نسبة ذكائهم تكاد تكون منعدمة حتي ان البعض منهم لديه مشاكل بالحركة أو الاتزان لذا قمنا بعرض الفكرة لمشروعنا الخيري ودخلنا كما يدخل الكثيرون من قبلنا ممن لديهم مساعي خير والبيروقراطية تقف حائلا لتحقيقها, كنا ندخل من مسئول لجهة ومن جهة لمسئول حتي انني من كثرة دق الأبواب لعرض فكرتنا علي الكثيرين أتوه داخل تجربتنا المثيرة ولن انكر تحمس بعض الجهات وعلي رأسها جمعية رسالة الخير تحديدا ولكن كانت البيروقراطية تقف بيننا لتحقيق الأمر. لكن سألقي عليك موقفا لن أنساه من احدي جولاتنا برحلتنا المثيرة لكشف النقاب عن سعادة مفقودة لنا كآباء هذه الفئة ولأبنائنا بالدرجة الأولي, توجهت منذ ثلاثة اسابيع لمسئول كبير ولديه وكيل وزارة الصحة بمكتبه وعندما عرضنا الأمر وللعلم فالوكيل طبيب! وتعليقه بعد الثورة عندما نظر اليه المسئول لعدم ادراكه لاستحقاق هذه الفئة لاهتمام ومكان آدمي يستوعب طاقاتهم فقال له ما تعليقك فرد بشكل اعتذر عن كلمتي ولكن رد باستهتار بمشاعرنا ولا مبالاة قائلا: سيدي الفاضل افضل شيء لهذه الفئة ان يظلوا داخل بيوتهم24 ساعة تحت نظر أهاليهم فذاك أفضل لهم.. وسؤالي هل ان كان هذا الوكيل لديه ابن شاب يافع معاق ذهنيا كثير الحركة بلا هدف يرهق من حوله في الجري وراءه داخل شقة مغلقة سيكون رده تماما كما سمعناه فلربما ليس كل من يسمع يعلم لكن من يري ويندمج سيشعر بصرختنا التي داخلنا كل لحظة.. فهل من سبيل لنشعر بأن ابننا سيحيا ببسمة وسنحيا معه الاف المرات عندما نراه يلعب ويضحك وسنبدأ بالحياة بشكل طبيعي عندما نجد مكانا فسيحا راقيا نأمل ان يكون يوما ما مركزا عالميا لصالح مرضي التوحد لتفريغ طاقاتهم يوميا بشكل مدروس.. فحياة المعاق كل يوم مكبوح الطاقة لنهدئ فقط من طاقاته علينا بإعطائه أدوية معينة ولا نحبذ اعطاؤها الا بأضيق الحدود لأننا نعلم ان ابننا من حقه الحياة وليس الموت برغم أن حياته دونما ارادته فهو أمانة بين ايدينا ونريد ان يكون نورا لنا علي الصراط فهل لنا ببارقة أمل تمد الينا يد العون لتحقيق حلمنا لنشعر بالطمأنينة عليه بحياتنا قبل مماتنا. سيدتي.. عشرات الرسائل التي تصلني عن مرض التوحد وعذاباته دفعتني لمزيد من البحث عنه, وفزعت عندما عرفت انه منتشر في مصر بصورة مخيفة, وانه من أخطر أمراض العصر, ولا نعرف سببا له أو علاجا. الاتجاهات العالمية تلقي ببعض الأسباب الي التلوث, ويرتبط بالتطعيم الثلاثي والحصبة للأطفال لوجود نسبة كبيرة معرضة للزئبق الذي تحفظ فيه هذه الطعوم. الأكثر فزعا اننا لا نملك احصائيات لعدد مرضي التوحد في مصر وباجتهادات محدودة تشير الي ان لدينا6 الي7 اطفال لكل ألف طفل يولد يصاب بهذا المرض, بينما في اليابان9 حالات لكل عشرة الاف طفل, و4.5 طفل في الدانمارك لكل عشرة آلاف طفل. فارق مفزع في الأرقام, ولا أحد يلتفت إلي ان جزءا من ثرواتنا البشرية يهدر ويدمر, ليس هذا فقط, بل نزيد الام ملايين الأسر, نحملهم مالايتحملون نفسيا وماديا وبدنيا. التوحد لمن لا يعلم هو أحد الاضطرابات التي تصيب النمو العقلي والانفعالي والاجتماعي وعلاجه يحتاج الي امكانات ومؤسسات كبيرة ليأتي بنتائج محدودة فهو علاج نفسي واجتماعي ودوائي, بعض الدول نجحت في تقليل نسب المرض بالتوحد, وبعضها حقق نتائج جيدة في العلاج مثل المملكة العربية السعودية, فلديها مراكز ومؤسسات تعالج بالفن والموسيقي والرسم. أعرف سيدتي احساسك المؤلم وزوجك المتعاون, فما أقسي عليكما ان تريا شابكما يلعب ويركض بعقلية طفل, تسعيان لرسم البسمة علي شفتيه, وتحاصران عنفوانه ورغبته في الانطلاق واللعب. انها صرخة أعلن عنها هنا ربما يلتفت اليها وزير الصحة وأهل الخير الذين ينشئون جمعيات أهلية لعلهم يلتفتون الي مرضي التوحد وأسرهم, نحن نبدأ الحملة.. فمن يشاركنا؟!