شاهد المجتمع الدولي وشاهدت القارة الإفريقية يوم التاسع من يوليو الماضي مولد دولة جديدة هي جمهورية جنوب السودان شاءت الظروف أن أشهد لحظة تلك الولادة في مدينة جوبا عاصمة الجمهورية الجديدة وهي لحظة لاتتكرر كثيرا. وقد كان الشهود من أنحاء العالم, كله كثيرين, كان هناك الكثير من رؤساء الجمهوريات الأفارقة, وكان هناك مندوبون من أغلب دول العالم كبيرها وصغيرها وكان هناك الأمين العام للأمم المتحدة, وجاءت جلستي بين بعض رؤساء الجمهوريات الأفارقة وكم كانت سعادتي عندما سألني بعضهم هل تعرف محمد فائق وقلت لهم انه صديق قديم ورفيق مستمر كانت سعادتي غامرة لأنني أعرف أن محمد فائق كان أحد الفاعلين الأساسيين في حركة تحرير إفريقيا في المرحلة الناصرية عندما كانت مصر ملء السمع والبصر في وطنها العربي وامتدادها الإفريقي وفي حركة التحرر العالمية وكان يجلس إلي جواري أيضا الرئيس أفورقي رئيس اريتريا وكان يلبس بدلة صيفي بنصف كم وحسنا فعل فقد كان الحر قاسيا رغم أنهم كانوا يقولون إنهم هناك الآن في فصل الشتاء. وتجاذبت مع أفورقي أطراف الحديث وسألته ان كان يذكر أننا التقينا من قبل منذ أكثر من عشرين عاما عندما استقلت اريتريا ايضا وعندما قرر شعبها أن يضع دستورا للدولة الجديدة وأسعدني أن أكون أحد الذين دعوا لهذه المناسبة وشاركوا في إعداد دستور الدولة الوليدة. المهم نعود الآن إلي جمهورية جنوب السودان الوليدة والتي أكدت انفصال السودان إلي دولتين حتي الآن السودان في الشمال وجمهورية جنوب السودان في الجنوب. واعترفت جمهورية السودان الشمالي بجمهورية جنوب السودان وكان الرئيس عمر البشير حاضرا وألقي كلمة طيبة في هذه المناسبة وأبدي استعداد جمهورية السودان لمساعدة الجنوب في كل المجالات, كذلك ألقي سيلفاكير أول رئيس لجمهورية جنوب السودان كلمة ضافية بعد أن أعلن رئيس البرلمان الدستور الجديد للدولة الوليدة والذي أكد كثيرا من أسس النظام الديمقراطي ولفت نظري عبارةSECULARCONSTITUTION أي دستور علماني, وأبدي رئيس جمهورية الجنوب كل النوايا الطيبة نحو الشمال ونحو كل الجيران الأفارقة بل ونحو العالم كله الذي شارك الجنوبيين احتفالاتهم. وكانت فرحة أهل جنوب السودان صادقة وغامرة ولكن هل كانت الفرحة خالصة وعامة في كل بقاع السودان الأصلي؟ وأقصد بذلك السودان كله قبل التقسيم. وهل يدرك سائر الأطراف حجم المخاطر والتحديات؟ وهل لن يأتي وقت يقول فيه أهل الشمال وأهل الجنوب: راحت السكرة وجاءت الفكرة؟ كل ذلك وارد بل وأكثر منه. هناك مشاكل كثيرة تطل برأسها منها ماهو في الجنوب وحده ومنها ماهو في الشمال وحده ومنها ماهو بين الشمال والجنوب. أما مشاكل الجنوب وحده فإنه رغم النظام الديمقراطي الجيد الذي وضعه الدستور الجديد فإن الصراع الطائفي بين أصحاب الأديان السماوية وبعضهم من ناحية وبينهم وبين من لايدينون بدين سماوي وهم غالبية أهل الجنوب الذين يعتبرون مرتعا خصبا لجماعات التبشير بكل ماتحمله هذه الجماعات وراءها من أجندات خاصة. ومع ذلك فأنا ممن يعتقدون أن النظام الديمقراطي هو النظام القادر علي استيعاب هذه المشاكل وهو القادر علي تقديم الحلول التوافقية لها, ومع ذلك فلست أستبعد وجود المخاطر. أما بالنسبة للشمال فمشاكله لاتعد ولاتحصي ويضاعف منها أن الديمقراطية تكاد تكون غائبة وأن التمسك بشكليات الأمور يغلب علي الالتفات إلي جوهرها. ولا شبهة في أن مشكلة دارفور هي من المشاكل التي تهدد استقرار شمال السودان وتهدد وحدته وقد بدأت بالفعل مطالبات بحق تقرير المصير في دارفور وهذه هي بداية المنحدر الوعر. كذلك فإن الشمال رغم وفرة الموارد يعاني من ندرة الكوادر البشرية التي هاجر الكثير منها إلي الخارج تحت ضغط الظروف السيئة التي مر بها السودان. هذا جزء من كل. أما عن المشاكل بين شقي السودان شمله وجنوبه فهناك مشكلة ترسيم الحدود, والأمر ليس محل اتفاق بين الطرفين وهناوك أيضا المشكلة المتفجرة الخاصة بمنطقة ايبي الغنية بالنفط والتي ما إن تهدأ حتي تنفجر من جديد. هذان مثلان فقط علي المشاكل القائمة بين شطري السودان: الحدود وأيبي, وهناك غيرهما كثير. ومع كل هذه المشاكل فقد كنت أحلم وأنا جالس في احتفالات الاستقلال الصاخبة بحلم يبدو رومانسيا ومع ذلك فإن من حق الناس أن يحلموا, وما أكثر ما استجاب التاريخ لبعض أحلام الرومانسيين من أمثالي. الحلم يقول إن مصر والسودان وجنوب السودان هي أقاليم ثلاثة متصلة وبينها وبين بعضها من الوشائح والمصالح والتكامل ما لو خلصت النيات معه لأمكن للحلم أن يتحقق. وعلي كل حال فإن الحلم لن ينتقل من عالم الخيال إلي عالم الواقع إلا بإرادة الناس. ولنبدأ من الآن بنوع من الدبلوماسية الشعبية التي تؤمن بهذا الحلم وما أظن أنني وحدي الذي أؤمن بهذا الحلم بل هناك غيري كثيرون وعلي هؤلاء الذين يقدرون علي التحرك في إطار الدبلوماسية الشعبية أن يبشروا بحلمهم في هدوء وفي رؤية أن يطرحوه للحوار وللتفكير وألا يدعوا أنهم رسل أو ملائكة أو أنبياء وإنما يتصرفون علي أنهم بشر يسيرون بين مواطنيهم وإخوتهم ويبشرون بهذا الحلم في غير ابتسار ولا قهر, ويوما بعد يوم سيزداد الحالمون ويوما بعد يوم يقترب الحلم من الواقع. ومن يدري لعل ذلك الواقع لايكون بعيدا بعيدا. العالم الآن يتجه إلي التكتلات الكبيرة القوية ونحن بيننا من الأواصر والروابط ما ليس موجودا لدي غيرنا ومع ذلك حققوا الأحلام. أوروبا التي تقاتلت شعوبها قرونا تعيش الآن في ظل وحدة اقتصادية وسياسية وتواجه العالم بإرادة واحدة. تعالوا نحلم وتعالوا نبشر بالحلم ونعمل معا علي تحقيقه. والله من وراء القصد. المزيد من مقالات د. يحيى الجمل