عقب ثورة يوليو سنة1952 صدر المرسوم بقانون رقم344 لسنة1952 في شأن جريمة الغدر, وتعدلت بعض أحكامه بالقانون رقم173 لسنة1953, فتحدثت المادة الأولي منه عن أن كل موظف عام أو مكلف بخدمة عامة ارتكب بعد أول سبتمبر1939 فعلا من الأفعال الآتية يعد مرتكبا لجريمة الغدر, ومن بين هذه الأفعال المشار إليها بتلك المادة إفساد الحياة السياسية, واستغلال النفوذ من جانب الموظف العام والمكلف بخدمة عامة للحصول علي فائدة أو ميزة ذاتية لنفسه أو لأحد أقربائه أو أصهاره, وكل عمل أو تصرف يقصد منه التأثير في القضاة أو التدخل في شئون العدالة,لقد صدر هذا القانون عقب ثورة يوليو لظروف خاصة قصدت منه الثورة وقتها تقييد وتكبيل معارضيها ولتأكيد هذا الاتجاه صدر القانون رقم34 لسنة1971 بتنظيم فرض الحراسة وتأمين سلامة الشعب. ثم صدر القانون رقم95 لسنة1980 الخاص بحماية القيم من العيب وأسند الصلاحيات والمحاكمات الواردة بالقانون34 لسنة1971 للمدعي الاشتراكي ومحكمة القيم, وظلت هذه القوانين جميعها مطبقة إلي أن تم تعديل الدستور السابق في عام2007 وصدر القانون رقم194 لسنة2008 الذي ألغي نصوص القانون رقم34 لسنة1971 الخاص بتنظيم فرض الحراسة والقانون رقم95 لسنة1980 الخاص بالمدعي الاشتراكي ومحكمة القيم والتي كانت تعاقب علي تهمة إفساد الحياة السياسية أمام محكمة القيم, وعاد الأمر برمته إلي القاضي الطبيعي, وعذرا اذا كنت قد أطلت في بيان التطور التاريخي التشريعي للقوانين الاستثنائية ولكنها مقدمة لازمة للوصول للنتائج التالية: أولا: إن القانون الخاص بجريمة الغدر قد صدر عقب ثورة يوليو في ظروف خاصة لتعقب معارضي الثورة, وأجريت في ظله بعض المحاكمات الاستثنائية أمام محاكم مشكلة تشكيلا خاصا يغلب عليها الطابع العسكري عن الطابع المدني للقضاء الطبيعي, وألغي هذا القانون بصدور القانون34 لسنة1971 الخاص بتنظيم فرض الحراسة, الذي عاقب علي تهمة إفساد الحياة السياسية الواردة بالقانون الأول, ثم ألغي قانون تنظيم فرض الحراسة هو الآخر وقانون حماية القيم من العيب, وعاد الاختصاص برمته إلي القضاء الطبيعي والمحاكم العادية عن الأفعال التي تشكل جرائم في قانون العقوبات والقوانين الجنائية المكملة له. ثانيا: من غير المجدي الجدل الدائر الآن والبحث عن مدي إمكان تطبيق قانون الغدر من عدمه, خاصة أن القانون المشار إليه أحال إلي قانون العقوبات في العقوبات الأصلية, كما لم تخرج العقوبات التكميلية بذات القانون المتمثلة في العزل من الوظائف العامة والحرمان من مباشرة الحقوق السياسية وعدم إمكان المحكوم عليه في جناية التصرف في أمواله وإدارتها عن مثيلتها في قانون العقوبات للمتهم المحكوم عليه بعقوبة الجناية, وإذا كان لا يمكن معاقبة المتهمين بتهمة الافساد السياسي في قانون العقوبات لكونها عبارة مطاطة تتنافي مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يفترض أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص, فإن للفساد بصفة عامة أدواته المتمثلة في أفعال تشكل جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات كتزوير الانتخابات واستخدام البلطجة في منع الناخبين من التوجه لصناديق الانتخابات للإدلاء بأصواتهم أو عدم تنفيذ الأحكام القضائية واجبة النفاذ واستغلال النفوذ للاستيلاء علي أموال الدولة العامة والخاصة وتسهيل استيلاء الآخرين عليها وغيرها من الجرائم التي ترتب عليها إفساد الحياة السياسية والإضرار باقتصاد البلاد, فضلا عن جرائم القتل العمدي للمتظاهرين أو الشروع في قتلهم وإحداث عاهات مستديمة بهم, وكلها أفعال معاقب عليها بعقوبات مغلظة تصل إلي حد الإعدام والسجن المؤبد أو المشدد, فضلا عن العقوبات التبعية الملحقة بها كالعزل من الوظيفة العامة ومنع الترشح في المجالس النيابية أو إدارة الأشغال العامة والخاصة والوضع تحت مراقبة الشرطة, ثالثا: اذا كانت الثورة قد قامت بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية وسيادة القانون في دولة القانون, فمن غير المنطقي المطالبة بالنكوص عن تلك المباديء والعودة للمحاكم الاستثنائية, أو تطبيق قانون عفا عليه الزمن, خاصة أن القانون المطلوب تفعيله والرجوع إليه يعاقب علي كل فعل من شأنه التأثير في القضاة أثناء أداء عملهم أو التدخل في شئون العدالة, وإذا كان الثوار قد دعوا في مطالبهم الأخيرة إلي عدم التوسع في محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري, فكيف يستساغ المطالبة بعد ذلك بالمحاكمات السياسية التي تخلو من أي ضمانات للتقاضي. إن العلم بالقانون إذا كان مفترضا كمبدأ قانوني مستقر فإن استغلال الجهل بأحكامه من قبل غير المتخصصين للترويج لأفكار خاطئة هو كارثة بكل المقاييس, وليس من مصلحة أحد التدخل في عمل القضاء والتشكيك في أحكامه أو النيل من هيبته وهيبة الدولة التي نبغي جميعا استمرارها واستقرارها.