هذا كتاب استثنائي، يحمل عنواناً رئيسياً هو «وقائع خروج أسرة يهودية من مصر» وعنواناً آخر فرعياً هو «الرجل ذو البدلة البيضاء الشركسكين». والكتاب أصدرته «دار الطنانى للنشر» لكاتبة كبيرة بالفعل هى«لوسيت لينادو» التى كانت رافقت أسرتها عندما حُملوا على مغادرة القاهرة إلى باريس وهى فى الرابعة من عمرها ربيع عام 1963 حيث راح أبوها يصرخ على ظهر الباخرة: «رجعونا مصر. رجعونا مصر»، إلا أنه ظل مغترباً يعيش على ذكرى القاهرة التى عشقها ليموت مريضاً ومنكسراً فى أحد مستشفيات نيويورك فى عام 1993. تقول: «وعندما عدت لعمارتنا بشارع الملكة نازلى وجدت جيراناً ودودين بشكل رائع، كانوا مازالوا يذكرون أبى وعائلتى وكم رحبوا بعودتى بأذرع مفتوحة... كما استطعت زيارة المعابد اليهودية التى كان يقصدها للصلاة، وإنه لأمر محزن إذ هى الآن خاوية، لكنها على الأقل لم تزل قائمة بكل احترام، فقد صانتها الحكومة المصرية... والكتاب، بقيمته وثرائه، وهو وليد جهد هائل لا يخفى على قارئ، وأنا لا أجد أفضل ولا أدق من كلمة الناشر إذ يقول إنه ليس كتاباً عن الطائفة اليهودية المصرية رغم أنها فى خلفية المشهد الأوسع، وليس كتاباً عن السياسة وإن كان لا يغفلها، بل هو كتاب عن المصير والحب العذب بين الطفلة التى صارت كاتبة: «وبين أبيها ليون الذى كان بطلاً درامياً بامتياز وشهدت حياته سنوات من المتعة الصافية قبل أن تفاجئه تقلبات الزمن وسطوة العجز ومأساة الرحيل عن الوطن». الأمر الآخر الذى سوف يدهشك أنه سيجسد لك جانباً من قاهرة ما قبل 1952 إذ تنهض أمامك أشبه بحلم وقد احتضنت العالم بثقافاته المختلفة وتعدده الدينى والاجتماعى فى أجواء تقبل بالاختلاف والتسامح إلى آخر المدى: «بحلول المغرب كان شارع الملكة نازلى يزدحم برجال فى قمة الأناقة يسيرون فى طريقهم للمعبد حاملين حقائب من قماش الساتان أو القطيفة تحوى شال الصلاة وكتب التلاوة وقلنصوة الرأس، كان المشهد يعلن عن أسلوب فى المعيشة غاب عن ذاكرة العالم، مشهد كان عنوانا لقبول تلك المدينة العربية لليهود المقيمين بها». أنا لن أستطيع، بالطبع، أن أوجز لك هذا الكتاب الكبير بشخوصه ومناخاته التى تمتد من القاهرة وباريس إلى نيويورك، والتى تنعش ذاكرتك بأسماء مثل الباريزيانا و الأوبرج و بديعة وببا عز الدين وفندق شبرد الذى كان أحد أرقى فنادق الدنيا والذى راح ضمن أربعمائة بناية متفرقة اشتعلت فيها النيران فى حريق القاهرة الشهير، وجروبى عدلى وسليمان باشا بقاعاته الثلاث: المشرب العادى والبار وقاعة تناول قطع الحلوى التى لا مثيل لها.. جروبى الذى كان مع ماكسيم الفرنسى هما الأشهر عالمياً، وقد احتفظ ماكسيم بمكانته بينما صار حال جروبى من حال مصر عموماً، ودعنى أعرض لك ما عمر به هذا الزقاق الجانبى الذى كانت لوسيت الكاتبة تطل عليه أيام طفولتها من شرفة المنزل رقم 281 شارع الملكة نازلي (رمسيس الآن ) تقول إن اللبان كان يأتى فى الصباح ليقف ببقرته ومعزته خلف المنزل حيث تقوم الجدة ظريفة باختيار نوع اللبن الذى تريده، وكيف أنها كانت مفتونة بالالتفاف حول السيل من الباعة الجائلين الذين يقومون بجر عربات يدوية ينادون على بضاعتهم من خضر أو فاكهة: عنب، تين، فاصوليا، برتقال، كرفس، بامية، طماطم، جبال من البطاطس، أو المشمش الحلو المذاق الزكى الرائحة.. والسمك الطازج من النيل، وكان ورق الورد يباع بالكيلة التى كان ثمنها مليمين وربات البيوت تتهافتن عليه لتصنعن منه مربى الورد، التى كان صنعها أمراً شائعاً... وفى موسم الورد هذا كان الباعة يطوفون فى الطرقات وهم يغنون: «يا ورد مين يشتريك». كتاب مفعم بالجهد والألم والمتعة، إنها مأساة أسرة يهودية مصرية جرى ترحيلها عنوة وآخرين. تقول لوسيت: «أبدا لم أشعر بحميمية تجاه أبى كما أحسستها فى هاتين الزيارتين إلى مصر، لقد كنت أشعر به حولى فى كل مكان أسير فيه فى شوارع القاهرة... وأحس كما لو كنت أستعيد جزءا من هوية أبى، بل أستعيد هويتى المفقودة، فإننى أمريكية، ولكننى أيضا قاهرية، إننى مصرية. وهى تشعر أخيراً، من خلال هذه الطبعة العربية، كما لو أن صرخة أبيها: «رجعونى مصر» قد تحققت. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان