سيارة نصف نقل قديمة تفرغ حمولتها في السادسة صباحا في نفس المكان كل يوم, نساء واقفاص واجولة ومشنات, تسارع شربات بالنزول بضفيرتيها القصيرتين ومنديلها الازرق وحلق مخرطة يتدلي من أذنيها الكبيرتين تطمئن في عجل علي رأس مالها القليل. تدس يدها المتغضنة في صدرها لتخرج كيسا قماشيا معلقا باستك الي رقبتها وتخرج منه جنيهات قليلة, تدفع أربعة جنيهات عن القفص الواحد وخمسة عن الجوال, تحمل بضاعتها وتهم مسرعة لتحجز مكانها وسط السوق وتلحق بها بقية النساء, ترص كل واحدة حمولتها من بطاطس وبصل وطماطم وملوخية وكرنب وباذنجان وكوسة, كيلوات قليلة من كل صنف, ويفترشن الشارع علي الجانبين, كل واحدة تعرف مكانها في سوق القللي, الذي تحتكره النساء تقريبا, يبعن فيه ويشترين. نفس الوجوه المغبرة ونفس الملامح, يشتد لهيب الشمس ويعلو اللغط في السوق ما بين خناقات وفصال ومناهدة, وتتحول شربات الي مجرد وجه وسط وجوه شاحبة أخري من كثرة ما تقلب عليها من نوائب وما تبدل عليها من حر وبرد وخماسين, مواسم متعاقبة رسمت علي مهل خريطة مفصلة للفقر والعناء علي وجه مصر. رحلة شربات بدأت قبل ثلاثين عاما ولم تتغير تفاصيلها المضنية يوما, تستيقظ في الثالثة صباحا, تحملها عربة صدئة مع زميلاتها الي سوق بولاق, تشتري بضاعتها. تفترش الرصيف المتهالك في السابعة صباحا, تتحرك من مكانها مرة أو مرتين, تذهب فيها الي مسجد قريب وتعود لتجلس بين المشنات حتي الخامسة, حينها تحمل ما تبقي وتعود ادراجها مهدودة ومنهكة, ولا يتبقي متسع لشيء في حياة شربات غير النوم. تبتسم ابتسامة واسعة تؤكد أنها اسم علي مسمي وتكشف عن اسنان مهدمة زرقاء وسوداء وصفراء, تركها زوجها صغيرة وضعيفة وفقيرة, لكنها ربت بنتين وزوجتهما من مشنة الخضار, لكن يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات, عادت واحدة منهن بعيالها. تعشق صوت عبد الحليم حافظ وتدندن قولي حاجه أي حاجه قولي بحبك ثم تضحك ملء شدقيها, والنبي الواحد بيضحك من غلبه.ذكيه وكريمة واخريات لا تختلف قصصهن عن قصة شربات, لم يسمعن عن برامج تمكين المرأة ولا مساعدة المرأة المعيلة ولا يعرفن شيئا عن مرشحي الرئاسة والثورة بالنسبة لذكية كانت عطلة ووقف حال. سمعت عما جري في25 يناير من ابنائها فهي تفاخر بأنها علمت اربعة حتي تخرج اكبرهم من كلية الحقوق والباقون من دبلوم الصناعة. زوجت بنتا وتستعد للاخري, لا تعرف شيئا عن مرشحي الرئاسة, لكنها تريد رئيسا يشغل اولادها الصبيان ولا تنوي التصويت لأنها تستيقظ في الثالثة صباحا ولا ترتاح الا يوم الجمعة, لا تقرأ ولا تكتب لكنها تجيب طلبات الزبائن من موبايل اخرجته من طيات الجلابية التي اشترت قماشها من وكالة البلح, مترها بعشرة جنيهات ومثلها للخياطة. ذكية وشربات أختان ولها أخت ثالثة تدعي كريمة اضطرت للعمل بعد ان توفي زوجها منذ ثلاثة اشهر فقط وترك لها اربعة ابناء اصغرهم عمره اربع سنوات ومن ثم أصبحن عزوة في السوق ويستطعن تدبير امورهن بشكل افضل ولدي ذكية متسع من الوقت لتقوير الكوسة والباذنجان و تقميع البامية, تحصل علي جنيه فرق في سعر الكيلو وتوصل الطلبات للمنازل القريبة.. بجوارهن تجلس ام محمد بجلبابها الأسود وطرحتها المربوطة الي الوراء أمام مشنة فيها جبن قريش ولبن وزبدة وفطير مشلتت وما لذ وطاب من خيرات الريف, تبتسم في دلال رغم تجاوزها الستين وتقول يا ختي انا بشتغل عشان اساعد جوزي, أصل جوزي أمور تتصاعد ضحكات النسوة في السوق طيب يا ام جوز أمور... علي الجانب الآخر, صفاء وسناء تجلسان في السوق متجاورتين تجمعهما مشاعر متناقضة بين التنافس والتعاون الاضطراري, فاعتناء كل واحدة بفرشة الاخري اثناء ذهابها للمسجد القريب لا يمنع من المناوشات وخطف الزبائن والتقطيع علي بعض. صفاء تجاوزت الاربعين قليلا ولا تشاهد برامج المرأة وفقرات الريجيم ولم تمتلك يوما قلم روج أو كحل وكل ما تتذكره عن أدوات المكياج, أيام كانت عروسا, أن صديقة لها غوتها ووضعت لها الاحمر ذات مرة فنالت علقة من زوجها, ومن يومها, لا أحمر ولا أخضر. لها ملامح قاسية وعيون طيبة وتبدو كمن يحمل علي كتفيه هموم الدنيا رغم ذلك لا تعرف معني كلمة اكتئاب وعندما تتضايق تدعي في قلبها أو تشاهد قناة الناس. برغم ذلك تعتبرها جارتها سناء من المحظوظات لأنها تأتي السوق في الداتسون, في حين أن سناء لا تستطيع تحمل تكاليف النقل وتستقل يوميا أربع مواصلات, تحمل خضارها من بلدتها بشبين القناطر الي بلدة اخري اسمها نوا ثم الي قليوب ومنها الي ميدان المؤسسة بشبرا الخيمة وأخيرا الي القللي, بعد ان تكون قد دفعت اربعة جنيهات كاملة ثم تعود آخر النهار بنفس الطريقة وقد قتلها التعب, تحمل معها أرغفة العيش وبقايا البضاعة لأسرتها المكونة من ثلاثة ابناء وزوج عامل بناء سابق اصيب بمرض صدري من كثرة استنشاقه من الأسمنت والهواء الملوث, تأكل الخضار المطبوخ الذي تقدمه لها ابنتها واما اللحم فهو بييجي من عند ربنا. لها ابن في الثانوية العامة تدعو له سناء بصوت منكسر ربنا يهديه فالولد عصيان ويريد غرفة يذاكر فيها والبيت كله اوضة. ولها ابن آخر عمره اربع سنوات, ينتظر عودتها في لهفة كل يوم لأنها وعدته ان تشتري له عجلة ولسه مجاش الفرج اخبرتني ان عمرها37 عاما, وان ابنتها الكبري عمرها21 عاما ثم اضافت دون اكتراث من دورك كده وجدت نفسي أقول لها: أنا من دورك انت يا سناء. رمقتني بنظرة متحجرة وحدقت طويلا ومرت دقائق أحسستها دهرا قبل ان تنطق بأسي الهم بيكبر يا بنتي.