أكثر ما يلفت النظر ونحن نتحدث عن النموذج الديمقراطي التركي أن تركيا نفسها لم تسع إلي فرضه علي أحد, وإنما صنعت نموذجا يمكن استلهامه في أي من دول الشرق الأوسط إعجابا وتقديرا بنتائجه السياسية والاقتصادية و'مثاليته' رغم الطريق الشاق الذي قطعته فكرة وجود حزب ذي توجهات إسلامية في بلد يقوم أساسه علي المباديء العلمانية. تبنت تركيا النموذج الديمقراطي الخالص منذ عام1982 بعد سنوات طويلة من الحكم العسكري, صحيح أن المؤسسة العسكرية ظلت لها الكلمة العليا علي الساحة السياسية حتي أواخر القرن الماضي بدعوي حماية العلمانية ومباديء الدولة التركية التي أرساها مصطفي كمال أتاتورك, ولكن هذه المرحلة انتهت تقريبا مع بدء مساعي تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي باعتبار أن تقليص نفوذ الجيش التركي وتوغله في الحياة السياسية كان أحد شروط أوروبا لاستمرار مفاوضات العضوية. يقوم النظام الديمقراطي التركي علي التعددية الحزبية وحرية التعبير, والبرلمان في تركيا يطلق عليه اسم المجلس الوطني التركي, وهو يتألف من550 عضوا يتم انتخابهم كل خمس سنوات, وزعيم الحزب الفائز بالأغلبية في البرلمان هو الذي يحق له تشكيل الحكومة, بينما ينتخب البرلمان بأكمله رئيس الجمهورية كل سبع سنوات, ويتولي المنصب لفترة واحدة فقط غير قابلة للتجديد, ومن أبرز سلطاته تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل الحكومة وقبول تشكيلها أو رفضه, والسلطة الأعلي من البرلمان هي المحكمة الدستورية العليا التي تراجع تشريعاته. واجهت تجربة الإسلام السياسي علي الطريقة التركية صدامات عديدة مع المؤسسة العسكرية طوال السنوات الأولي للحكم الديمقراطي, وكانت الفكرة منذ البداية أن الموافقة علي تشكيل أحزاب ذات طبيعة دينية خير وسيلة لتجنب ظهور حركات التشدد الديني كما حدث في دول عديدة أخري بالمنطقة, فظهر حزب الرفاه الاجتماعي بزعامة نجم الدين أربكان الذي حقق نجاحا كبيرا علي الساحة السياسية قبل أن تتدخل المؤسسة العسكرية لإبعاده عن السلطة, ثم صدر قرار بحل الحزب بالكامل من قبل المحكمة الدستورية العليا عام1998 لمخالفته نظام البلاد العلماني. غير أن تجربة حزب العدالة والتنمية الصورة الأكثر مدنية من رفاه أربكان كانت الأكثر نجاحا, ساعد علي ذلك أن الشروط التي وضعتها أوروبا مقابل قبول ضم تركيا إلي عضوية الاتحاد الأوروبي خدمته, فقد بدأت هذه المفاوضات منذ عام2004, وعلي الرغم من أن معارضي ضم تركيا في أوروبا رأوا وما زالوا يرون أنه من الخطأ ضم بلد إسلامي كبير مثل تركيا إلي الكتلة الغربية, فإن أنصار انضمام تركيا رأوا أن' احتواءها' سيساعد علي انتشار الديمقراطية الغربية في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة التركية, وأن النموذج التركي يصلح لأن يكون' ملهما' للدول الشرق أوسطية, وهو ما يتحقق هذه الأيام بالفعل, وبدون أن تسعي أنقرة نفسها إلي فرضه علي الطريقة الأمريكية, وبخاصة تجربة الحزب الإسلامي المؤمن بمباديء الدولة المدنية كتجربة حزب العدالة والتنمية الذي يمكن تصنيفه علي أنه حزب' الإسلام العلماني'. وكان من أبرز شروط الاتحاد الأوروبي لمواصلة المفاوضات مع تركيا الحفاظ علي النهج الديمقراطي والإصلاح السياسي والاقتصادي, وتقليص نفوذ الجيش في الحياة السياسية رغم حقيقة أن الجيش التركي هو الأكبر عددا بين دول حلف شمال الأطلنطي' الناتو' بعد الجيش الأمريكي, واحترام حقوق الأقليات, وبخاصة الأكراد, وحل مشكلة شمال قبرص التي كانت القوات التركية قد احتلتها منذ عام1974, وقد استجابت تركيا بالفعل لكافة هذه الشروط, ولكن الشرط الخاص بالجيش هو الذي ساعد علي عدم تكرار الصدام بين المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم ذي التوجهات الإسلامية, خاصة وأن حزب أردوغان نفسه استفاد كثيرا من أخطاء أربكان, والأهم من ذلك أنه نجح في إقناع الأتراك بقدراته عبر نجاح سياساته الاقتصادية. لقد نجح' العدالة والتنمية' في الوقوف في نقطة وسط بين تجارب الإسلام السياسي في إيران وغزة والتجارب العلمانية الخالصة في تركيا نفسها قبل مرحلة أربكان, وتميز أيضا بانتهاجه سياسة خارجية متوازنة نجح خلالها في التقارب مع كافة دول العالمين العربي والإسلامي بسياسات قوية معارضة لضرب العراق ومؤيدة للحق الفلسطيني وفي الدفاع عن باقي القضايا الإسلامية, وأيضا في التقارب مع الغرب من خلال النجاح الاقتصادي والاستجابة لمتطلبات العضوية في الاتحاد الأوروبي والحفاظ علي علاقات وطيدة مع شتي القوي الغربية الرئيسية مثل الولاياتالمتحدة التي تري في النموذج التركي رغم الخلافات المتقطعة بين البلدين النموذج المثالي لباقي دول المنطقة بدلا من النموذج الإيراني. وبالفعل, فقد كان الاستقرار الاقتصادي هو كلمة السر في نجاح التجربة الإسلامية في تركيا, فالحقائق تقول إنه علي الرغم من أن اقتصاد تركيا كان علي وشك الانهيار في أواخر القرن الماضي, فإن حكومة أردوغان نجحت في أن تصبح الدولة الأقوي اقتصادا بين الدول الإسلامية, واحتلت المركز الخامس عشر عالميا, رغم أنه اقتصاد لا يقوم علي البترول, بل يستند إلي التصنيع والسياحة بشكل أساسي, ويتضح أثر ذلك من خلال متوسط دخل الفرد في تركيا سنويا والذي يبلغ10 آلاف دولار, ولولا النجاح الاقتصادي لما كتب لهذه التجربة' الإسلامية' التركية أن تكتمل أو تحقق النجاح.