جددت الأزمة السياسية الأخيرة في تركيا الشكوك المحيطة بالنظام الديمقراطي برمته وقدرته علي البقاء في مجتمعات لا تعترف إلا بموازين القوي ولغة المصالح. وجاء التدخل التقليدي للمؤسسة العسكرية التركية في هذه الأزمة بدعوي حماية العلمانية التي ينص عليها الدستور التركي, ليسير تساؤلات حول مدي مصداقية الديمقراطية وقدرتها علي البقاء في عصر العولمة مادامت الكلمة الأخيرة ليست دائما' حرة'. فأي ديمقراطية هذه التي يضمنها ويدافع عنها جيش وجنرالات؟ وأي ديمقراطية هذه التي لا تتمتع فيها الأغلبية المنتخبة بحق اتخاذ القرار؟ وأي ديمقراطية هذه التي ترفض وصول شخص ما إلي منصب رئيس الدولة عبر اقتراع الأغلبية لصالحه وفقا لما ينص عليه الدستور؟ وأي ديمقراطية هذه التي يمتد فيها دور الجيش بعيدا عن الدور الأساسي الموضوع له في الأنظمة الديمقراطية وهو دور المدنية العسكرية؟ وأي ديمقراطية هذه تلك التي يمارس فيها الجيش ضغوطا شديدة علي المحكمة الدستورية لكي تصدر حكما يعارض رأي الخبير القانوني الذي أفتي بشرعية التصويت في الجلسة الأولي للبرلمان, علي انتخاب عبد الله جول رئيسا للبلاد؟ ولماذا يستغل الجيش التركي دائما نص الدستور علي حقه في الدفاع عن القيم العلمانية, ويتدخل في قضايا سياسية لا تمس العلمانية بشيء مادام بطل الأزمة وهو حزب العدالة والتنمية أعلن التزامه صراحة بمبدأ علمانية الدولة؟ وطالما أن للحزب تجربة مدنية ناجحة في الحكم لا غبار عليها؟. فالديمقراطية الحقة تدافع عن نفسها بنفسها لا عن طريق الجيش والتدخلات والضغوط, وليس صحيحا ولا منطقيا أن هناك فئات بعينها يجب ألا تصل إلي السلطة عبر الديمقراطية مادامت لا تؤمن بالديمقراطية كنظام, فهذا يندرج تحت باب افتراض سوء النيات الذي يفترض أن لا مكان له في السياسة المعاصرة, والديمقراطية التي لا يحميها الناس أنفسهم وتحتاج إلي تدخل الجيش لحمايتها ليست ديمقراطية أو هي ديمقراطية ناقصة. ولا ينكر أحد أن تركيا نموذج يحتذي به للتحول من الدولة الشمولية إلي الدولة الديمقراطية, وينسب الفضل في تحويل تركيا إلي دولة' أوروبية'' غربية'' متحضرة' إلي مصطفي كمال أتاتورك, ولكن يجب أن يكون مفهوما أن ما حققته تركيا من مكاسب في العقود الماضية كان بفضل الديمقراطية, وأنه من طبيعة الديمقراطية كنظام أنها لا تتوقف عند رأي فئة واحدة تزعم أنها هي التي تحتكر الحقيقة بمفردها, ومن مزاياها أيضا أنها قادرة علي تطوير نفسها, وهو ما جعل الأتراك أنفسهم ينحازون إلي التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية, ومن قبله من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي منذ أواخر القرن الماضي وحتي الآن, حيث رأوا من خلال تجربتهم أنه يجب ألا تفقد تركيا هويتها الإسلامية وتنفصل عن قضاياها القومية. إن الخسارة الكبري لتركيا في هذه الأزمة ليست في فقدانها ثقة الاتحاد الأوروبي الذي يريد ديمقراطية كاملة وحقيقية كمعيار أساسي لانضمام أي دولة إلي عضويته, ولكن الخسارة الأكبر أنها أي تركيا أحدثت ثقبا جديدا في ثوب النظام الديمقراطي يضاف إلي مجموعة الثقوب التي أحدثها من قبل تدخل الجيش التركي أيضا لمنع سيطرة الإسلاميين علي الحكم في أواخر التسعينيات في الأزمة الشهيرة التي كان بطلها نجم الدين أربكان, وكذلك أزمة استبعاد يورج هايدر الزعيم اليميني النمساوي من الحكم بعد وصوله إلي السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة, مع كامل التحفظ علي شخصية هايدر, ثم كارثة الحصار الدولي الذي قادته الولاياتالمتحدة علي حكومة' حماس' الفلسطينية رغم أنها كانت منتخبة, وأخيرا الثقب الأكبر, بل الرقعة, التي أحدثها الغزو الأمريكي للعراق من مآس في الشرق الأوسط والنموذج السييء الذي قدمته واشنطن للديمقراطية في العراق, والذي جعل شعوب المنطقة التواقة إلي الديمقراطية والإصلاح تتخوف من مجرد سماع اسم كلمتي الديمقراطية والإصلاح وما يرتبط بهما من مصطلحات. وستكون الخسارة الكبري عندما تجري الانتخابات البرلمانية في تركيا قبل موعدها, لأنه لو تكرر فوز حزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات لعاد أقوي مما كان, ولربما عاد الجيش مجددا إلي التدخل لفرض رأيه, الأمر الذي من شأنه أن يدخل تركيا في دوامة أزمة سياسية طاحنة, لن تمتد لتصل إلي الحرب الأهلية كما قال دينيز بايكال زعيم المعارضة اليساري, ولكن علي الأقل ستقوض فرص تركيا تماما في الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي, والأهم من ذلك أنها ستضيف ثقبا جديدا في الثوب الديمقراطي الذي بات مهلهلا أمام جميع شعوب العالم الحرة! وجدير بالذكر أن تاريخ الجيش التركي حافل في مجال التدخلات في الأحوال السياسية, وهناك مقولة نقلتها هيئة الإذاعة البريطانية' بي.بي.سي.' عن جنرال تركي متقاعد قال فيها إنه يمكن للبناية التركية يقصد الدولة أن تنهار فيها أجزاء كثيرة, مثل احترام الأغلبية وحرية التعبير وغيرها من الحريات, ولكن' يجب أن يبقي سطح هذه البناية قويا', والسطح هنا هو الجيش, وهكذا ينظر العسكريون في تركيا إلي بلدهم, ومن أشهر الأمثلة علي ذلك ما حدث في الثمانينيات عندما نفذ كنعان إيفرين انقلابه الشهير, حيث كان أول ما فعله إعادة التيار العلماني إلي الحكم بعد الإطاحة بالائتلاف الحاكم وتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الناشطين الإسلاميين واليساريين معا. ولكن هذا لم يمنع وصول الإسلاميين مجددا إلي السلطة في انتخابات عام1996 ليترأس أربكان حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر, إلي أن تم حظر حزب الرفاه وأحيل أربكان إلي القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة, وتم منعه من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات, وعاد أربكان ليؤسس حزب الفضيلة ثم السعادة في2000 و2003, إلي أن تمت محاكمته بتهمة الاختلاس. ويبدو أن الجيش سيظل قابضا علي' الديمقراطية' في تركيا لسنوات أخري قادمة.