وجه القضاء في تركيا الاتهام إلي جنرال ومدع عام للاشتباه في مشاركتهما في شبكة كانت تعتزم إشاعة الفوضي في البلاد لتمهيد الطريق أمام الجيش للإطاحة بحكومة حزب العدالة والتنمية، وأكد قرار الاتهام أن الموقوفين كانوا يؤيدون خطة ترمي إلي تشويه سمعة الحزب الحاكم، وجمعية فتح الله جولين الإسلامية، القريبة من الحزب، من خلال إخفاء مخدرات وأسلحة ووثائق مثيرة للشبهات، في مقرات جامعية تتولاها الجمعية. كانت المواجهة قد تصاعدت مجددا بين حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا والمؤسسة العسكرية، بعد أن وجهت اتهامات لجنرالين متقاعدين، وضابطين آخرين، بالتآمر للإطاحة بالحكومة، وجاء ذلك بعد ساعات من حملة نظمتها أجهزة الشرطة لاعتقال عدد من الضباط في إطار نفس التهمة، وبالتالي رفع عدد ضباط الجيش المعتقلين إلي نحو 50 ضابطا. وكانت إحدي الصحف قد نشرت في يناير الماضي ما وصف بأنه " خطة انقلابية" كان من المفترض تنفيذها في عام 2003، وتقضي بمهاجمة مقاتلة تركية فوق بحر إيجة، وتوجيه الاتهام إلي الطيران اليوناني، وزرع قنابل في مساجد اسطنبول، وغير ذلك من الأمور التي من شأنها إثارة الفوضي، وتبرير وقوع انقلاب عسكري. وقد وجهت الاتهامات بتدبير الخطة الانقلابية إلي نحو 200 شخص، اتهم بعضهم بالانتماء إلي جماعة " ارجنيكون " اليمينية المتطرفة، وهي الاتهامات التي نفاها الجيش جملة وتفصيلا، معللا ذلك بأن الخطة ما هي إلا " مخطط لمناورة عسكرية " افتراضية، لأغراض التدريب. وعلي الرغم من أن رئيس الأركان إيلكر باشبوغ قد أكد احترام الجيش للدولة، وتشديده علي أن عهد الانقلابات العسكرية قد ولي، في تركيا الطامحة للانضمام للاتحاد الأوروبي، إلا أن قيادة أركان الجيش وصفت الموقف في بيانها الاستثنائي بالخطير، لكن بدون إبداء أية بادرة للتدخل في سير الاجراءات القضائية. وفي تعليق غالبية الصحف التركية بدت اتجاهات لاعتبار الانتخابات المبكرة، هي المخرج الوحيد من الأزمة الناشبة بين الجيش وحزب العدالة والتنمية، فيما أكد زعيم المعارضة القومية في البرلمان دولت بهجلي أن مستقبل النظام التركي بات في " خطر محقق " . صلاحيات الجيش والقضاء منذ عام 2008، تجري السلطات القضائية في تركيا محاكمات لنحو 200 شخص، بدعوي انتمائهم لتنظيمات للمافيا، ومنظمة ارغينيكون، ومن هؤلاء المتهمين محامون، وصحفيون، وجامعيون، وعسكريون، يشتبه في ضلوعهم في خطط مناهضة للحكومة. وبينما يعتبر الليبراليون أن كشف قضية ارغينيكون هو خطوة لدعم المسار الديمقراطي، إلا أن آخرين يعتبرون ما يجري ماهو إلا ذريعة حكومية لتضييق الخناق علي التيار العلماني والمعارضة. (وقع 44 من الكتاب والصحفيين إعلانا اتهموا فيه رئيس الوزراء بانتهاك حرية الصحافة، لانتقاده الإعلام والصحفيين بسبب ما اعتبره اثارة للتوتر). كانت المحكمة الدستورية قد حاولت منذ شهور التوصل إلي أمر بوقف التحقيقات في هذه القضايا بذريعة أن العسكريين لا يجوز محاكمتهم أمام محاكم مدنية، خاصة في القضايا التي تتعلق بأمن الدولة، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح، حيث إن القضايا هي الآن منظورة بالفعل أمام القضاء. ومهما يكن، فإنه لابد من الاعتراف بأن هناك صلاحيات مبالغا فيها لكل من الجيش والقضاء، بمقتضي دستور 1980، الذي وضعه الجنرال كنعان ايفرين، بعد انقلابه، وإسقاطه الحكومة المنتخبة آنذاك. وفي المجتمع التركي يتبلور اليوم السؤال المحوري وهو :هل آن الأوان لانتهاء الدور التقليدي للعسكر، وإعادتهم نهائيا إلي ثكناتهم، وتنفيذ أوامر السلطة المدنية ؟ وبالرغم من أن النظام السياسي في تركيا ينطوي علي مؤسسات حققت درجة مناسبة من الاستقرار، إلا أن الجيش التركي لم يتردد علي مدي خمسين سنة من التدخل، وإسقاط الحكومات لأربع مرات، والبقاء في السلطة لفترة، يتم بعدها السماح بإجراء الانتخابات، والعودة إلي الحياة المدنية. ونتيجة لذلك، يعتبر كثيرون أن " علمانية " تركيا بقيت دوما رهنا بحماية العسكر والقضاء، ولولا ذلك، ما صمدت منذ أعلنها مؤسس دولة تركيا الحديثة مصطفي كمال أتاتورك. غير أن الوجه الآخر للواقع التركي يتمثل في أن حكومة حزب العدالة والتنمية، ذات البعد الإسلامي، تمكنت من اثبات جدارتها الانتخابية، منذ 2002، وعبر انتخابات حرة، كما أن شعبية الحزب تزيد بعد كل انتخابات استنادا إلي انجازات سياسية واقتصادية، مع التأكيد علي انفتاحية الحزب، ورغبته في استمرار المشروع التحديثي في تركيا، بدون أية خطة مضمرة، لإلغاء علمانية تركيا. لكن يجري ذلك كله، في ظل جيش، له أدواره غير المحدودة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، أي جيش رقيب نصب نفسه قاضيا، وحكما علي كل شيء ، رافضا التحول إلي "جيش طبيعي " مثل جيوش الدول الأخري، يأتمر بدستور مدني. والحقيقة أن مركز الجيش التركي ليس هينا، فالجيش يضم نحو مليون جندي وضابط، وهو ثاني أكبر جيش في جيوش حلف شمال الأطلنطي، وهو ثامن أكبر جيش في العالم، وللجيش التركي ممثلوه في مؤسسات رئيسية منها القضاء، والإعلام، والتربية والتعليم، وهناك ما يطلق عليه " بروتوكول التعاون للأمن والانتظام العام "، الساري منذ 1997، وهو يسمح للجيش (دستوريا ) بتجميد أي نشاط في البلاد، بدون نيل موافقة السلطات المدنية. ويعد الجيش التركي أحد أعمدة النشاط الاقتصادي، فمنظمة "أوياك " العملاقة تضم نحو 28 مؤسسة، ويعمل فيها أكثر من 30 ألف موظف، كما أن هناك مؤسسة دعم القوات المسلحة التي تحتكر الصناعات الحربية. المشكلة التركية علي الرغم من الشعبية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية في تركيا، إلا أن هناك من يتربصون به، ومنهم رجالات الجيش، والمؤسسة القضائية، وبعض القوميين المتطرفين. فالمدعي العام لمحكمة الاستئناف عبد الرحمن يالشنكايا يعد العدة لرفع قضية أمام المحكمة الدستورية العليا يتهم فيها الحزب بالتنصت علي هواتف المحكمة، وعدد من القيادات، وانتهاك قانون الأحزاب السياسية، ومن ثمة المطالبة بإغلاق الحزب. غير أن المشكلة التركية تشهد فصلا جديدا، حيث إنها المرة الأولي، في تاريخ الجمهورية التركية، التي يتم فيها اعتقال هذا العدد الكبير من العسكريين، وتوجيه الاتهامات لهم، ومحاكمتهم. فما أكثر المقولات التي قيلت من قبل، وأفادت بأن " الجيش ولد ليحكم " ويحمي البلاد، ربما استمرارا لتقليد عثماني قديم، ومن ثقافة الجيش التركي وعقيدته أن "كل تركي يولد جنديا ". وبناء علي ذلك، فالذريعة التي تبرر تدخل الجيش دائما حاضرة، في صورة خطر ( قومي )، في 1960 ضد عدنان مندريس وتوسيع حرية الإسلاميين، في 1971 خشية وصول شيوعيين إلي السلطة، في 1980 علي إثر مواجهات القوميين والاشتراكيين والشيوعيين، في 1997 ضد الإسلام السياسي، ويواكب ذلك كله، دساتير عسكرية أو شبه عسكرية، ومن ثمة، لم يكن أحد في تركيا يتصور أن يتحدث أحد عن "قادة جيش أمام المحاكم". أما الجانب الآخر للمشكلة التركية فتتمثل في أن للجيش التركي أيضا شعبيته بين الأتراك، وهو موضع ثقة شعبية ظاهرة بالنظر إلي دوره في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدن والقري والمحافظات، بما يقدمه من مساعدات في مجالات الصحة والإغاثة والتعليم، والأشغال العامة، الأمر الذي جعل عددا كبيرا من الأتراك ينظرون إلي الجيش علي أنه السبيل الأفضل للتحديث والترقي، وهناك الآلاف من الموظفين الذين يعملون، ويستفيدون من المزايا، في المؤسسات التابعة للجيش . وفي سياق ذلك كله، فإنها المرة الأولي أيضا التي يكشف فيها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عزمه علي اتخاذ الخطوة الأكثر جرأة، لضبط دور الجيش في الحياة السياسية، وذلك عن طريق تغيير المادة (35) من قانون الخدمة الداخلية، الذي يحدد مهمة الجيش في تركيا، ووظيفته، (فيما يتعلق بمهمة مواجهة ما يعتبره تهديدا داخليا للنظام) وهي المادة التي يستند إليها الجيش لتشكيل الخلايا، ووضع الخطط لما يعده خطرا علي النظام العلماني في تركيا. مستقبل تركيا عندما كان شباب تركيا يشتركون في الماضي في القتال ضد حزب العمال الكردستاني، وأداء خدمات عسكرية للجيش، كان ذلك يعد وسام شرف ومدعاة للفخر بالنسبة لهم ، غير أن اليوم تبرز التساؤلات عن جدوي أن يفقد الأتراك أرواح أبنائهم في عمليات الجيش. في الوقت نفسه، ثمة مراجعات في المجتمع التركي مؤداها أنه لم يعد مستساغا، أو مقبولا أن يقوم الجيش التركي بانقلاب عسكري، للإطاحة بالحكومة، في بلد، من المفترض أنه يجسد صورة دولة حديثة، تدافع عن المبدأ الديمقراطي. أيضا من شواهد التغيير المجتمعي تجاه الجيش التركي إذاعة مسلسل تليفزيوني تضمن وقائع لممارسات الجنود والانتهاكات التي وقعت خلال انقلاب 1980، وبث فيها مقاطع من التعذيب الذي تعرض له السجناء في سجن ديار بكر علي أيدي جنود الجيش. أكثر من ذلك، هناك "استعادات " وإعادة تذكير بالخطاب الذي ألقاه أتاتورك في 1909 وطالب فيه الجيش بعدم التدخل في السياسة، وتوجيه جميع الطاقات إلي تقوية الجيش. وعلي الرغم من أن قائد الجيش الجنرال إليكر باشبوغ يقال عنه إنه علماني حتي النخاع، إلا أنه يدرك حقيقة الدور المنوط بالجيش بصورة تختلف تماما عن قادته السابقين، ويبدو أن مقولاته تنطوي علي درجة أكبر من المصداقية، حينما يؤكد أن " لا مكان للجيش علي الساحة السياسية". وفي الإطار العام، يبدو أن المواجهة هذه المرة، ستنعكس بقوة علي مستقبل الجيش التركي، فأردوغان يوجه انتقادات صريحة للمؤسسة العسكرية، فقد منعت زوجته من دخول المستشفي العسكري لعيادة زوجة أحد العسكريين بسبب ارتدائها الحجاب، وينتقد أردوغان القضاء والمحكمة الدستورية العليا، معتبرا أن الحياة السياسية في تركيا تخضع لوصاية القضاء. ويبدو أن رئيس الوزراء يعتزم الاستقواء بالشعب التركي، والأغلبية التي تؤيده من أجل السعي آجلا أو عاجلا، لوضع دستور جديد للبلاد، بدلا من الدستور الحالي الذي وضعه الانقلابيون في 1980. وجاء قرار القضاء بتوجيه الاتهام للعسكريين بالمشاركة في شبكة مناهضة للحكومة، ليعزز موقف حزب العدالة والتنمية، في معركة يعتبرها البعض "معركة تكسير العظام " بين الجانبين.