في رسالة الرئيس التركي عبد الله جول التي وجهها للأمة مع مطلع العام الجديد، أكد بأن عام 2010 لن يشهد بحال من الأحوال أية انقلابات عسكرية في تركيا، أو أية مذكرات يوجهها الجيش إلي حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتشديده مجددا علي أن مجرد التفكير في هذه الاحتمالات هو إهانة للقوات المسلحة التركية. تصريحات الرئيس التركي جاءت علي خلفية ظلال (أزمة متجددة) بسبب مباشرة السلطة القضائية تحقيقات حول مزاعم خطة عسكرية لإضعاف الثقة في حزب العدالة والتنمية الحاكم. وعلي الرغم من محاولات رئيس الأركان التركي نفي أية نزعة للتآمر من جانب الجيش ضد الحكومة، وتصريحات أردوغان بأن (مؤسسات الدولة تواصل عملها في إطار ديمقراطي) فإن شبح الخلافات بين المؤسستين يثير ظلالا من الشك حول مستقبل العلاقات فيما بينهما. كانت سحب التوتر قد تصاعدت في الفترة الماضية بسبب اكتشاف تورط عدد من ضباط الجيش في مخططات ضد الحكومة، وقبل أيام من ليلة رأس السنة، ضبط ضابطان يحومان حول منزل نائب رئيس الوزراء حيث سرت شكوك حول تدبير مؤامرة لاغتياله وعدد من السياسيين الأتراك. وصدرت الأوامر لعدد من رجال الأمن والمحققين المدنيين بدخول أرشيف القوات الخاصة للجيش والتفتيش والبحث عن أدلة إدانة ضباط في الجيش حول مخططات التآمر والاغتيالات. هيبة المؤسسة العسكرية قد يبدو من ظواهر الأمور أن المؤسسة العسكرية التركية تخوض حاليا "معركة البقاء" من أجل الحفاظ علي المكانة المميزة والمحصنة التي تمتعت بها منذ تأسيس الدولة التركية، واعتبار الجيش هو مفتاح التحديث، والحفاظ علي طابعها العلماني، الأمر الذي جعل الجيش ضالعا بقوة في إسقاط أربع حكومات علي مدي خمسين عاما. غير أن سحب التوتر القاتمة التي حلقت مؤخرا في الأجواء السياسية في تركيا أنبأت بأن "المؤسسة العسكرية التركية" تواجه تحديات تتجاوز مسألة المكانة، إلي حدود الدور المستقبلي والصلاحيات، الأمر الذي ساهم في تسخين العلاقات بين المؤسسات. ومع أن المؤسسة العسكرية في تركيا لا تزال أحد أهم اللاعبين علي الساحة السياسية، إلا أن الشواهد تؤكد أن قدرا لا بأس به من (قوة ونفوذ) هذه المؤسسة، قد أصبح من ذكريات الماضي ففي 20 يوليو2009 تمت محاكمة جنرالين متقاعدين، ضمن مجموعة من 56 شخصا متهمين بالانتماء لجماعة يمينية غير معروفة، تتآمر للإطاحة بحكومة أردوغان، وقد اتهم الادعاء الجماعة بالتآمر لنشر الفوضي من خلال تفجيرات واغتيالات لإجبار الجيش علي التدخل، والإطاحة بحكومة أردوغان. وكانت مؤشرات هذا الفصل الجديد من المواجهة بين الحكومة والجيش في صالح الحزب الحاكم، حتي وإن كانت المؤسسة العسكرية قد وافقت علي رفع الغطاء عن جنرالاتها السابقين، في محاولة لتوجيه رسالة للأتراك، بأنها حريصة هي الأخري، علي احترام الشرعية الدستورية والقانونية، ضد من يعتبرونهم "العناصر المتطرفة في صفوف الجيش". أسرار الجيش من الحقائق المثيرة عن الجيش التركي أنه يقوم بمثابة "مؤسسة أيديولوجية" تحافظ علي استقلالها إلي حد كبير، وليس من السهل اختراقها، فالشخصيات التي تود الانضمام إلي المؤسسة العسكرية، يتعين أن تكون ميولها (أتاتوركية) في الأساس، وهذا هو معيارالاختيار للأشخاص الذين يدخلون الاختبارات العسكرية، مع استبعاد ذوي الميول الإسلامية أو اليسارية. وفي دستور 1982، تفيد المادة 35 ما يمنح الجيش حق التدخل في الشأن السياسي. كما سمح المركز الخاص للمؤسسة العسكرية بالدخول في مشاريع اقتصادية لتعزيز العوائد المالية الإضافية، ومن ذلك مؤسسة "أوياك" العملاقة التي ضمت مصرفا وشركات للمقاولات، وعدة مصانع، وفيما كانت تفاصيل الموازنة العسكرية سرا من أسرار المؤسسة، ففي عام 2003، نجحت حكومة حزب العدالة والتنمية في إجراء إصلاح برلماني تمثل في السماح للبرلمان بمراقبة موازنة الجيش ومشترياته، وهو ما بلور منهاجية جديدة، وقوية في التعامل مع المؤسسة العسكرية. هذا، بالإضافة إلي القانون الذي تقدمت به حكومة العدالة والتنمية لتخويل سلطة استيراد وتصدير الأسلحة العسكرية الخاصة بجهازي المخابرات والشرطة إلي وزارة الداخلية، مع وزارة الصناعة والتجارة، بدلا من وزارة الدفاع، الأمر الذي اعترضت عليه رئاسة الأركان بدعوي أنه يجعل من الأسلحة العسكرية التركية أمرا مشاعا، علي حد تعبير رئيس الأركان وفي السنوات الماضية، بدأت الاتهامات توجه للجيش حول "وحدات عسكرية سرية" تقوم بتنفيذ عمليات اعدام لسياسيين أكراد، بالإضافة إلي اتهامات بالضلوع في عمليات بمشاركة المافيا، وتجارة الأسلحة والمخدرات، وجرائم الفساد المالي. إلا أن السقطة الكبري للجيش التركي تمثلت في (وثيقة) كشفت عنها صحيفة طرف في يونيو الماضي، موقعة من العقيد بحري دورسون شيشك بعنوان (خطة مكافحة الأصولية) للانقلاب علي حكومة حزب العدالة والتنمية، وتدمير جماعة النور الإسلامية بزعامة الشيخ فتح الله جولين، الأمر الذي دفع أردوغان لاستدعاء رئيس أركان الجيش الذي اضطر إلي أخذ موقع الدفاع، وليس الهجوم هذه المرة، واصفا الوثيقة بأنها من قبيل (الخطط القذرة). ويقول محلل سياسي تركي، إنه علي مدي عام مضي، ندر أن يمر يوم، بدون كشف اسم لأحد الضباط ضالعا في (خطة سرية) للتآمربين ضباط الجيش علي حكومة العدالة والتنمية، ولم يشهد تاريخ الدولة التركية إضعافا لقوة ونفوذ الجيش، مثلما شهد عام 2009. انتهاء عصر الانقلابات العسكرية يلاحظ أن أردوغان اتخذ موقفا عقلانيا، حيث دافع عن المؤسسة العسكرية ،انتصارا للثقة في مؤسسات الدولة، وحفاظا علي ما يسميه (السلام) الذي يعيشه المجتمع التركي، طالما أن الاجراءات الأمنية، والقانونية، وتحقيقات القضاء تسير في مجراها الطبيعي، لمتابعة الرؤس المدبرة، التي تستهدف ضرب استقرار الدولة. هذه هي صورة الدولة التي يتولي الحكم فيها حزب العدالة والتنمية، ذي الجذر الإسلامي، والذي حقق نجاحات سياسية واقتصادية وعسكرية، أقنعت رئيس الأركان التركي، وجعلته لا يجد بدا من الإعلان بأنه يتعهد بالوقوف في وجه أي محاولة للانقلاب ضد الحكومة، ويصف العناصر التي تسعي إلي ذلك بأنها لا تستحق البقاء في الجيش. وفي بيان لهيئة الأركان جاء "لا مكان داخل صفوف الجيش التركي لمناهضي النظام الديمقراطي". وعبر شواهد عديدة تنبئ بتراجع الجيش عن استهداف الحكومة، كانت الموافقة علي قانون يقضي بتقديم العسكريين إلي المحاكمة المدنية، حتي ولو كانوا في الخدمة، خاصة في حالة ضلوعهم في خطط انقلابية، وهي خطوة تساهم في فك قبضة الجيش، بجعلهم خاضعين للمحاكم المدنية، وهي خطوة تدعم الاصلاحات الديمقراطية في تركيا. من ناحية ثانية، لايخفي أن هناك درجة لابأس بها من التوافق بين حكومة أردوغان والجيش حول قضية الأكراد، وخطوات الانفتاح التي اتخذتها الحكومة في هذا الصدد. علي صعيد آخر، فإنه مما يجعل قضية الانقلابات العسكرية في تركيا مسألة مستبعدة، كما جاء في رسالة الرئيس التركي للأمة، أن الجيش التركي ليس في مقدوره حاليا القيام بانقلاب عسكري، لن ترضي عنه الولاياتالمتحدة وأوروبا، ولن يقبله المجتمع الدولي، الذي يتعامل فقط مع الحكومات الشرعية، الحائزة علي رضا الناخبين، ويتعامل مع الدول علي أساس نوعية آداء نظامها السياسي، في ظل مناخ دولي ينتصر للديمقراطية ،ويرفض منطق الانقلابات العسكرية. وإذا ما وقع انقلاب عسكري في تركيا فإنه سيقلب كل حساباتها رأسا علي عقب، ومن المتوقع أن تنتقده أمريكا بقوة، خاصة وأن حزب العدالة والتنمية، يحظي بتأييد غربي، كونه حزبا اسلاميا يمارس تجربة الحكم الديمقراطي، كما يحظي أردوغان نفسه بنوع من الدعم، كونه من عناصر التقريب بين الغرب والعالم الإسلامي، وسياساته تجاه اسرائيل، والتي لاتستبعد التعاون، برغم اتخاذها مواقف قوية تجاه بعض الممارسات الاسرائيلية. وفي المحصلة، يلفت الانتباه، أن رئيس الأركان التركي، وعبر عدة لقاءات مع رئيس الوزراء، يؤكد تعاونه مع الحكومة لكشف أية مخططات يدبرها الضباط ضدها، وتأكيده مجددا أن الجيش تعاون مع الحكومة في كشف قضية ارجنيكون. حراك المجتمع التركي كان من ثوابت الجمهورية التركية الحديثة ،اضطلاع المؤسسة العسكرية بحماية العلمانية والديمقراطية، باعتبار أن الجيش هو من دعاة الحداثة، وهو المنوط به مراقبة حسن سير الدولة، حتي شاعت فكرة رئيسية مؤداها أن نجاح هيكل الدولة، ودستورها، ومشروعها الحداثي/ العلماني يبقي رهنا بحماية المؤسسة العسكرية. وفي غمار ذلك ترسخت فكرة التعارض بين "الحداثة" و"القيم والتوجهات الإسلامية"، وطالما ردد رئيس الأركان التركي فيما مضي مقولة "إننا مصممون علي حماية الديمقراطية العلمانية بأرواحنا". ولأن مشروع النهضة التركي تواصل، عبر مراحل تزامنت خلالها صراعات القوي، مع تطورات المجتمع اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وتطورت خلالها الفكرة الديمقراطية، في سياق انتقال المجتمع التركي من مجتمع ريفي زراعي إلي مجتمع مدني صناعي، فقد جاء ذلك في إطار تجربة ثرية من التفاعلات الخلاقة، التي حققت درجة مناسبة من "الحراك الاجتماعي" تغيرت معها أفكار النخبة، والثقافة السياسية، بموازاة (وعي مجتمعي) متنامي اكتسب القدرة علي فرز الحقائق، لتبين ما يتفق منها مع المصالح العليا لتركيا كدولة ناهضة. وفي إطار نوع متجدد من الوعي، حلت فكرة جديدة مؤداها، أن تدخلات الجيش علي أي مستوي، هو (اعتداء علي الديمقراطية) وليس (حماية لها). وعندما وجه قادة الجيش التركي مايشبه الانذار بانقلاب عسكري في 1997، جاءت المعارضة المجتمعية من جانب اتحاد الصناعيين ورجال الأعمال، منادين (بالحل الديمقراطي لمشكلات الحكم والسياسة)، الأمر الذي تغيرت معه بالتدريج معادلات "التغير الاجتماعي والسياسي" حتي قيل إن المجتمع التركي اكتسب قيما علمانية وديمقراطية (بالتنشئة والتعود). وفي هذا السياق، ففي استطلاع للرأي اجري في 1986 لم يوافق سوي 7% علي إقامة دولة إسلامية تطبق الشريعة، حتي اعتبر البعض أن اسلام تركيا بات أكثر اعتدالا من اسلام ايران والجزائر. وفي إطار تجربة حزب العدالة والتنمية فإن فكرة الإسلام السياسي نفسها "تطورت" واكتسبت قوة انفتاحية، قوامها الرئيسي إزالة التناقض بين الديني والعلماني، وطرح فكرة الحزب الإسلامي العلماني، أو غير المعادي للعلمانية، ودمج الأفكار الحياتية السياسية والاجتماعية والثقافية، علي أساس تذويب الفوارق بين المنهاجيتين. ويبدو أن المجتمع التركي بلور نوعا من (العقلنة السياسية) والتي امتدت إلي نظرة المؤسسة العسكرية إلي دورها في الدولة، ونظرة المجتمع إلي هذه المؤسسة الحيوية. وفي مسار هذه العقلنة السياسية، تحسنت علاقة الجيش والبرلمان، وتطورت أسس وقواعد المساءلة السياسية والقانونية والمجتمعية للمؤسسة العسكرية، وأصبح الجيش معنيا إلي حد كبير باحترام الدستور والقانون وسيادة الدولة.