التردد وعدم الحسم والبطء في اتخاذ القرار سمات تحدد ملامح سياسات موسكو تجاه الثورات العربية التي تظل تؤرق قيادات الكرملين خشية امتداد نيرانها الي اطراف الثوب الروسي في شمال القوقاز. ولعل متابعة ما اتخذته وتتخذه موسكو من قرارات تجاه الاوضاع في كل من ليبيا وسوريا يقول ببراجماتية السياسة ومكيافيلية التوجه من منظور اعلاء الخاص علي العام. المصالح تدفع موسكو الي التمسك بمواقف تبتعد في معظم الاحوال عن سياسات مثيلاتها من العواصمالغربية تجاه ربيع الثورات العربية. ورغم ان البراجماتية كانت ولا تزالتحدد الكثير من ملامح السياسة الروسية فان هذه السياسة تعود لتتخذ منحي آخر في محاولة لانقاذ ما يمكن انقاذه في مناطق الجوار القريب بعد ان سبق وشهدت أروقتها انقسام قياداتها وهو ما يذكر المراقبون تفاصيله قبيل التصويت علي القرار1973 في مجلس الامن حول فرض الحظر الجوي ضد ليبيا وهو نفس الانقسام الذي تبدي مؤخرا تجاه الاوضاع في سورية. فبينما اعلن الرئيس دميتري ميدفيديف عن تمسك روسيا برفض اصدار قرار عن مجلس الامن مماثل للقرار1973 بشأن ليبيا قال رئيس حكومته فلاديمير بوتين في تصريحات ادلي بها هذا الاسبوع في باريس ان موسكو لا تحمي النظام في سورية وانه لا تربطها به اية علاقات خاصة. وبغض النظر عن تباين وتدرج مواقف المسئولين في موسكو تجاه الاوضاع في كل من سورية وليبيا فان هناك من الشواهد ما يقول ان المصالح والغايات تجمع بين الاضداد. واذا كان الخلاف قد تجلي واضحا بين ميدفيديف وبوتين تجاه تصويت روسيا علي القرار1973 فانه سرعان ما تراجع تجاه ضرورة التوافق مع مواقف بلدان الثماني الكبار وتوجهات بقية الاسرة الدولية انطلاقا من ضرورة الحفاظ علي مصالح روسيا مع المجتمع الدولي. وقد ظهر ذلك في استقبال موسكو لعدد من اعضاء المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا واعلان سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسية عن ان بلاده تعترف بهذا المجلس شريكا شرعيا. ولم يمض من الوقت الكثير حتي اعلن ميدفيديف صراحة انضمامه الي الثماني الكبار في اعلانهم حول اعتبار القذافي' جثة سياسية هامدة' وخارجا علي الشرعية الدولية وطالب برحيله عن السلطة. وكان ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية سبق واعلن ان القذافي جرد نفسه من الشرعية ويجب مساعدته علي التنحي معترفا بعدم وجود خلافات جذرية مع الولاياتالمتحدة تجاه الزعيم الليبي. اذن هي المصالح والمواقع الاقتصادية التي تقدر مكاسبها في ليبيا بما يزيد علي14 مليار دولار وتخشي موسكو فقدانها وسقوطها بين' براثن' الاخرين ممن تحاول خطب ودهم ومشاطرتهم النصيب المناسب من' الكعكة النفطية'. وعلي الرغم من ان مواقف موسكو تبدو في بعض جوانبها مختلفة عن مثيلاتها الغربية تجاه كل من ليبيا وسوريا فان الواقع يقول بان المصالح تظل تفرض نفسها معيارا للتوجه والسياسات. واذا كانت سورية تفتقد من القدرات الاقتصادية مثلما تمتلكه ليبيا من ثروات نفطية ومقدرات اقتصادية فانها تظل وبحكم الموقع والجوار تملك ما يجعلها ذات اهمية خاصة علي خريطة اهتمامات روسيا في منطقة الشرق الاوسط ما يعني ان الاهمية الاقتصادية لليبيا تتراجع قليلا امام الاهمية الجيوسياسية لسورية بالنسبة لروسيا. وكانت موسكو اكدت غير مرة استحالة موافقتها علي اتخاذ موقف مماثل لما جري اتخاذه تجاه ليبيا في مجلس الامن بل ورفضت مع الصين الموافقة علي اصدار بيان يدين السلطات السورية بسبب حملات حكومتها ضد المعارضين حسب رأي البلدان التي تقدمت بمسودة البيان.ونقلت المصادر عن سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسية قوله ان الوضع السوري يختلف اختلافا جذريا عن الوضع الليبي وان موسكو تري ان القيادة السورية تسعي الي اجراء الاصلاحات مؤكدا ان ما يجري في سورية مسألة داخلية وليس خطرا علي الامن العالمي وان القيادة السورية تستطيع الاضطلاع باصلاحه. غير انه لم يمض من الوقت الكثير حتي بادر ميدفيديف واتفق معه بوتين في معارضة وادانة العنف الذي تمارسه القيادة السورية.وكان ميخائيل مارجيلوف رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الاتحاد قال قبيل سفره الي ليبيا مبعوثا شخصيا من جانب الرئيس الروسي ان الوضع في سورية قد يصبح خارج السيطرة بعد شهر في حال عدم اجراء الاصلاحات وهو ما يعكسه الاعلان الاخير عن ان موسكو تستعد لاستقبال وفد المعارضة السورية.ولعل ما صدر عن بوتين من تصريحات في باريس حول ان موسكو لا تملك علاقات خاصة وان لفرنسا علاقات اكثر تميزا مع دمشق يقول بان سياسات موسكو تجاه الاوضاع في المنطقة تظل مرتبطة بالمناورات التي تمارسها بعض القوي والمحاور من اجل حماية المصالح الروسية في اطار ادارة الشئون الخارجية. وهنا نتوقف لنشير الي ان هناك في موسكو من يحذر من مغبة الانسياق وراء التوجهات الغربية التي تنادي برحيل الاسد علي غرار ما جري ويجري في مصر وتونس وليبيا حفاظا علي مصالح الدولة الروسية. واشار مراقبون الي ان الاضطرابات في سورية المتاخمة للحدود الجنوبية لروسيا قد تسفر في حال تفاقمها واشتعالها عن انتقال النيران الي اطراف الثوب الروسي ليس فقط في شمال القوقاز بل وفي أماكن أخري متفرقة في منطقة ما وراء الفولجا الي جانب احتمالات فقدان أحد أهم حلفاء روسيا في منطقة الشرق الاوسط طالما ارتبطت معه بعلاقات تاريخية بما في ذلك علاقات التعاون العسكري في الوقت الذي تحاول فيه الدبلوماسية الاسرائيلية ان تكون اكثر تأثيرا في دوائر صناعة القرار الروسية تجاه كل من ايران والبلدان العربية تحت ستار التخويف من احتمالات وصول القوي الاصولية الي الحكم بديلا للانظمة القائمة. ولعل ذلك يمكن ان يبرر مواقف موسكو التي تحاول استعادة ما فقدته في المنطقة وهو كثير بسبب التردد وعدم الوضوح الذي اتسمت به سياساتها تجاه الثورات العربية ولا سيما في مصر وتونس, في توقيت يسجل تصاعدا في التحركات الايرانية الامر الذي قد ينعكس سلبا علي مجمل الاوضاع في المنطقة وهو ما لابد ان يؤثر علي وضعية روسيا كدولة عظمي كشفت الاحداث الاخيرة عن هشاشة استقلالية قرارها السياسي. علي ان الامل آخر من يموت ويعقده الكثيرون في المنطقة العربية علي ما يبدو من تغيرات تطرأ علي مواقف موسكو قد تعيدها الي مصداقيتها المعهودة وبما يكسب سياساتها تجاه الشرق الاوسط طابعا اكثر نشاطا علي ضوء التغيرات الاخيرة التي حملت خلال الايام القليلة الماضية ميخائيل بوجدانوف سفير موسكو في القاهرة الي منصب نائب وزير الخارجية مسئولا عن ملف الشرق الاوسط. واذا كانت مصر فقدت في هذا الموقع احد أبرز محبيها من كبار الدبلوماسيين الروس فانها سوف تكسب آخر تحتل مصر في وجدانه مكانة متميزة وهو سيرجي كيربيتشينكو سفير موسكو الحالي في دمشق الذي ينتقل الي القاهرة خلفا لبوجدانوف وهو الذي شب وترعرع بين احضانها في كنف والديه المستعربين في خمسينيات القرن الماضي ولم يكن تجاوز الثالثة من العمر.