ما الذي فعلته مصر أو المصريون لتستحق عليه كل هذه المحاولات التي تستهدف كسرها وزعزعة استقرارها وإثارة العداء من حولها ونشر الفوضي بين ربوعها؟ والسيناريو واحد, حملات إعلامية بالغة الشراسة تعتمد علي المغالطات وتزييف الواقع وتوجيه الاتهامات المسيئة والتصاعد بها إلي حد التخوين والخروج علي الدين والقومية والوقوف إلي جانب أعداء الأمة والملة, ومظاهرات في عواصم ومدن عربية ذات توجهات وأهداف معروفة وواضحة, ولا بأس من إحراق الأعلام المصرية وما يرتبط بذلك من طقوس, واعتصام العشرات أمام أبواب السفارات والقنصليات المصرية بالخارج, والهجوم أحيانا عليها واقتحامها. لماذا تواجه مصر ويواجه المصريون كل هذا؟ وهل فقدت مصر هيبتها إلي الدرجة التي تسمح بتطاول كل هؤلاء المتطاولين؟ هل هانت مصر إلي حد تشجيع الآخرين علي العمل دون كلل لكسرها, وكسر إرادتها, ومحاصرتها بالفوضي والضغوط؟ أم أن يد مصر أصبحت أقصر من أن تطول كل هذه القوي؟ أم أن أمنها الوطني فقد أهميته وبالتالي تجرأ الآخرون عليه وبدأوا في تنظيم خلايا إرهابية داخل مصر مثلما فعل حزب الله؟ إن اختلاف الأهداف والمصالح والسياسات لا يمكن أن يكون مبررا لما يجري. لقد اختارت مصر طريق السلام بعد أن حققت انتصارها الكبير في معركة أكتوبر1973. ولقد حاولت بإخلاص أن تقنع الآخرين بضرورة السلام وشرحت ظروفها والظروف الدولية والإقليمية التي تفرض هذه المسيرة, ولكن الكل تقاعسوا بل وعجزوا عن تقدير الأمر بصورة صحيحة فهل تدفع مصر ثمن اختيارها للسلام؟ أم ندفع نحن ثمن عجز القيادات المسئولة عن الفهم والتقدير؟ ثم لقد التحق العرب, كل العرب بعد ضياع وقت ثمين بقطار السلام, وبدأت دول عربية تستجدي السلام من إسرائيل والولايات المتحدة, فلماذا هذا الإصرار علي العمل بكل همة لكسر مصر وإرادتها؟ لقد تمكنت مصر من استعادة سيادتها علي كل ترابها الوطني, فما هو الخطأ في ذلك؟ هل كانوا يريدون أن تستمر مصر في الحرب من أجلهم؟ هل كان المطلوب أن يعمل الجيش المصري في خدمة الآخرين, ولو تحول إلي جيش من المرتزقة لا يتقاضي أي مقابل من العرب حتي ولو كان الشكر؟ وكما أصبح واضحا ومؤكدا كحقائق تاريخية, إن مصر تحملت أعباء هائلة من أجل القضية الفلسطينية التي ليست قضية مصرية, وقد أدي هذا الانغماس إلي نزيف اقتصادي وبشري أدي في النهاية إلي تحول مصر من دولة من دول العالم الثاني إلي دولة تقف علي مشارف العالم الرابع, أما بشريا فقدمت كل قرية مصرية عددا من الضحايا أكثر مما قدمته دول عربية كثيرة. كان أهل الحكم في هذه الدول يتحدثون عن الحرب ولا يحاربون. أما مصر فكانت تحارب ولا تتحدث, والآن يتصدر المتحدثون الساحة, وتتعرض مصر للأذي. ولكن ولكي توضع الأمور في نصابها, إن الفلسطينيين هم أصحاب القضية, ولقد ذهبت منظمة التحرير الممثلة لكل الفلسطينيين كما تقول أدبياتهم إلي اوسلو ووقعت اتفاق سلام مع إسرائيل. وبدأ مشوار السلام الفلسطيني الإسرائيلي. فهل المطلوب أن تكون مصر ويكون المصريون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين؟ وإذا ما اختلفت الرؤي الفلسطينية, وانقلبوا بعضهم علي بعض ونشبت الحرب بينهم واحتدمت الصراعات, فما هو المطلوب مصريا؟ هل تنحاز مصر إلي هذا أو ذاك؟ ومن المنطقي ألا تنحاز مصر إلي طرف من الأطراف, وألا تسمح لطرف أن يؤثر في قرارها, فلا حماس أيا كانت ورطتها وورطة أهل القطاع قادرة علي تصدير المشكلة إلي مصر, ولا مصر مستعدة لرهن قرارها لأي طرف أيا كانت الضغوط التي تتعرض لها. ومن الجدير بالذكر أن مصر مرت بعدة مراحل في علاقتها بالمنطقة والحفاظ علي هيبتها والدفاع عن مصالحها منها: في العصر الملكي الذي سبق23 يوليو1952, كانت القوة الناعمة وسيلة مصر في حماية وتعظيم مصالحها وفرض هيبتها علي الجميع, فبالتعليم والفن والأدب والثقافة والعلم مارست تأثيرها. خلال هذه المرحلة لم يكن البترول قد تعاظم دوره, لذا كانت معظم الدول تعتمد علي الدعم الخارجي, خاصة من مصر. وحفظ الجميع لمصر دورها, والأهم أن نهضة مصر التي بدأت مع بداية القرن التاسع عشر أثرت بشكل إيجابي في المنطقة وكانت الحضارة تبعث بإشعاعها إلي المنطقة ككل وتدفع بها علي طريق التقدم. في المرحلة اليوليوية, بدأ الانقسام بين ما سمي الدول الثورية والدول الرجعية. ولم يتورع الثوريون عن إثارة الاضطراب بالدول الرجعية والتآمر والعمل من أجل وصول انقلابيين إلي قمة السلطة. وكانت المؤامرات ومساندة القوي الانقلابية والمتمردة والمعارضة, واغتيال الخصوم, واختطاف البعض واحضارهم في صناديق من أماكن إقامتهم إلي العواصم الثورية خاصة القاهرة, وسيلة فعالة لإقناع الآخرين بإظهار الاحترام للدول الثورية علنا علي الأقل وعدم التعرض للمصريين. ولكن الوحدة المصرية السورية عام1958, وماجري من انفصال عام1961, وسياسة المغامرات الخارجية والتورط المصري في اليمن ابتداء من خريف عام1962 والهزيمة المروعة في يونيو1967, أدت إلي انكسار القوي الثورية وتراجعها وعجزها عن اتمام مشاريعها الثورية واضطرارها لمد اليد للدول التي قالوا إنها رجعية بحثا عن الدعم والمساعدة. وخلال هذه الفترة, أدت الظروف الاقتصادية والسياسية والأوضاع التي ترتبت علي سياسات اقتصادية سيئة إلي بدء خروج المصريين للعمل في الخارج خاصة في العالم العربي. ويوما بعد يوم زاد حجم هذه العمالة, ونتيجة لزيادة نسبة البطالة في مصر فقد تحولت هذه العمالة إلي ورقة ضغط علي النظام المصري. أي كلما غضبت هذه الدول من مواقف أو سياسات مصرية, كانت تلجأ لعقاب مصر عن طريق ترحيل هذه العمالة أو طرد نسبة منها. مرحلة ما بعد أكتوبر ومشوار السلام, وكان واضحا أثناء قمة بغداد العربية التي قررت عزل مصر وتجويعها عقابا لها علي مسيرتها السلامية, أن الأمر يتجاوز كل ما يرتبط باتفاقية السلام هناك طموح صدام حسين للسيطرة علي المنطقة وبسط نفوذه, وبدء بروز الدور العراقي وتحولت هذه السياسة إلي منهج عمل لكل القوي التي يمكن أن تستفيد من تحجيم مصر وتقزيم دورها والاساءة إلي أهلها. وتصور البعض سهولة مثل هذا الطريق. والآن, هل المطلوب أن تلجأ مصر إلي أساليب المرحلة الأولي من العصر اليوليوي لردع الجميع؟ وهذا غير مطروح ولكن التذكير به للذكري, لأن المطلوب الحقيقي من كل حكومة مصرية أن تلجأ لأسلوب المعاملة بالمثل, وأن تكون مستعدة لمثل هذه السياسة فمصالح مصر وهيبتها وكرامة أهلها لا يمكن أن تظل مستباحة. ولتكن نقطة البداية, هذا الاستنفار المصري لحماية المصريين بالخرطوم. المهم أن هذا الاستنفار أدي إلي تعاظم شعبية القيادة وكل عناصر السلطة. المزيد من مقالات عبده مباشر