لن ننعم بقيام مصر الحرية والعدل والكرامة الإنسانية, باعتبارها أهم قطاف ثورة شعب مصر العظيم إلا إذا استقر, بقوة القانون, ووقر في النفوس, احترام كامل حقوق الإنسان لجميع البشر في مصر, وعلي الأخص احترام الحقوق المدنية والسياسية لجميع المواطنين وعلي رأسها حقوق الترشح والانتخاب وتولي المناصب العامة, من دون أي تفرقة حسب النوع أو المعتقد. ولكنني للأسف تعرضت لحملة شرسة من النقد والتجريح ممن علقوا علي حواري مع المصري اليوم يوم4 مارس2011 لمجرد أن أبديت رأيا بترشيح سيدة فاضلة لمنصب رئاسة الجمهورية في مصر. ورأيت أن أناقش المسألة لأهميتها, مع الترفع عن إساءة الأدب التي انزلق لها بعض المعلقين من منطلق رب اغفر لقومي. روعة شريعة الإسلام أن أحكامها تقبل التفسير, ولهذا تقوم التفرقة بين الشريعة والفقه, والثاني كما هو معروف لكل ذي علم هو نتاج اجتهاد بشري قد يخطئ وقد يصيب, ويمكن أن يتأثر بالغرض وبالهوي, وفيه علي الخصوص فقه مستنير وآخر رجعي متخلف. ولكن هذه النعمة الإلهية تتحول إلي نقمة عندما يتقدم للتفسير بعض الدهماء, أو منافقي السلاطين, أو من يتبنون عن اعتقاد أعمي مواقف فقهية رجعية, وفي الأثر أن كان أقلهم علما اسرعهم إلي الفتيا. والثابت عندي أن الثقافة العربية الإسلامية, خاصة في حدود المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية والفقه المستنير, لا تقف في حد ذاتها, عائقا رئيسيا لمشروع للنهضة يقوم علي الحرية واكتساب المعرفة ونهوض المرأة. لكن الإعاقة, كل الإعاقة, تقع في توظيف بني الاستبداد والتخلف للتأويلات الرجعية والمتخلفة لمكونات الثقافة العربية الإسلامية, خاصة الإسلام, لخدمة إعادة إنتاج هيمنة القلة المهيمنة في نظم الحكم الاستبدادية في المجتمعات العربية, وتكريس العزوف عن اكتساب المعرفة نشرا وإنتاجا, وتأكيد حرمان النساء من حقوقهن الإنسانية, وحقوقهن في المواطنة الكاملة, بما يعني اطراد حالة الانحطاط والهوان التي كنا نعيش إلي أن أشرق فجر الثورات الشعبية الرائعة في مصر وتونس, ونرجو أن تلحق بهما ليبيا واليمن قريبا حتي يتشكل إقليم قاعدةب للتحرر في الوطن العربي من خمسة بلدان محررة من الحكم التسلطي. البسطاء عادة ما يخلطون بين الإمامة والولاية العامة, الأولي دينية, والثانية مدنية. والراجح أن نظام الحكم في الإسلام, لا سيما لدي السنة, مدني وليس دينيا. والمؤكد أن هناك آراء فقهية معتبرة تؤكد أحقية المرأة في جميع حقوق المواطنة, في الانتخاب والترشح وتولي المناصب العامة, ومن ثم فإن منطق العصر الذي يحتم احترام منظومة حقوق الإنسان يقضي بتفضيل مثل هذه التفسيرات المستنيرة علي تلك المتشددة التي تري منع النساء من تولي الولاية. وأود هنا أن أبدأ بالاتفاق مع رأي أ. فهمي هويدي القائل بأنه علي الرغم من أن الأصل في أحكام الإسلام هو المساواة بين الرجل والمرأة, إلا أن أصل المساواة لم يحظ بما يستحقه من اهتمام, خصوصا من جانب الغلاة, حتي حدث التخليط بين ما هو قطعي ملزم وما هو ظني تتعدد فيه الاجتهادات والخيارات. وبين ما هو تعاليم ربانية وما هو تقاليد وأعراف اجتماعية, وما هو نص شرعي يحتكم إليه ويحتج به, وبين ما هو فقه وتاريخ يؤخذ منه ويرد. وحيث يظهر أن آراء غالبية المعترضين علي موقفي في حواري مع المصري اليوم صدرت عن تشدد ديني, ينم عن فهم منقوص, استشهد هنا بعلماء وفقهاء أجلاء, يؤكدون المساواة بين المرأة والرجل في الإسلام, خاصة في حقوق المواطنة, لا سيما تولي المناصب العامة, عسي تنفتح لآرائهم آذان وعقول من غلظوا علي القول, سامحهم الله. فيشدد د. يوسف القرضاوي علي أن االإسلام يرتفع بقيمة المرأة وكرامة المرأة باعتبارها ابنة وزوجة وأما, وعضوا في المجتمع, وقبل ذلك كله باعتبارها إنسانا. فالمرأة مكلفة كالرجل, مخاطبة بأمر الله ونهيه مثله, مثابة ومعاقبة كما يثاب هو ويعاقب. وأول تكليف إلهي صدر للبشر خوطب به الرجل والمرأة معا حين أسكنا الجنة, وقال الله لهما: وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين( سورة البقرة:35). ويقول الرسول صلي الله عليه وسلم: إنما النساء شقائق الرجال. ويدين الشيخ محمد الغزالي الانحراف عن تعاليم الدين بشأن المرأة قائلا:( إن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء وشاعت بينهم روايات مظلمة وأحاديث إما موضوعة أو قريبة من الوضع انتهت بالمرأة المسلمة إلي الجهل الطامس والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معا إنها انتصار لتقاليد جائرة, وليست امتدادا للصراط المستقيم). ويؤيد د. عبد الحليم محمد أبو شقة حقوق المرأة في الانتخاب والترشح, والتشريع والرقابة, من حيث إن القاعدة الأصولية تقول( الأصل في الأمور الإباحة وبناء علي عدم ورود تحريم من الشارع لحق المرأة في الانتخاب والترشح نعتبر هذا الحق مشروعا من حيث الأصل.) ويضيف اوننقل هنا رأيا للدكتور مصطفي السباعي رحمه الله, وهذا الرأي الذي ننقله عنه إنما هو رأي مجموعة من المختصين في الشريعة دار الحوار بينهم حول مدي إقرار الشريعة لحق المرأة في الانتخاب والترشيح. قال رحمه الله:... رأينا بعد المناقشة وتقليب وجهات النظر أن الإسلام لا يمنع من إعطائها هذا الحق. فالانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها في التشريع ومراقبة الحكومة; والمرأة في الإسلام ليست ممنوعة من أن توكل إنسانا بالدفاع عن حقوقها والتعبير عن إرادتها كمواطنة في المجتمع... وليس في الإسلام ما يمنع أن تكون المرأة مشرعة, لأن التشريع يحتاج قبل كل شيء إلي العلم مع معرفة حاجيات المجتمع وضروراته التي لا بد منها, والإسلام يعطي حق العلم للرجل والمرأة علي السواء. وفي تاريخنا كثير من العالمات في الحديث والفقه والأدب وغير ذلك. وأما مراقبة السلطة التنفيذية فإنه لا يخلو من أن يكون أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر والرجل والمرأة في ذلك سواء في نظر الإسلام. يقول الله تعالي:( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وعلي هذا فليس في نصوص الإسلام الصريحة ما يسلب المرأة أهليتها للعمل النيابي كتشريع ومراقبة). ونأتي الآن إلي العلامة محمد مهدي شمس الدين, أحد أهم أعلام الفكر الإسلامي المعاصر, الذي لا يري مانعا من تولي المرأة السلطة العليا: فقد تبين لنامن النظر في الأدلة- والله عز وجل أعلم بحقائق أحكامه- أن ماتسالم عليه الفقهاء من عدم مشروعية تصديها وتوليها للسلطة دعوي ليس عليها دليل معتبر وبعد توضيح الموقف الفقهي المستنير, نود أن ننهي هذا المقال بالإشارة إلي أن بحوث فسيولوجيا المخ البشري الأحدث تؤكد أن القدرات العقلية والذهنية للإناث تفوق, في المتوسط, مثيلاتها بين الذكور. وليس غريبا, والأمر كذلك أن تتفوق البنات والشابات علي أقرانهن من الذكور في جميع المراحل التعليمية في كل البلدان العربية. وتحقق البنات والشابات هذا الإنجاز المبهر علي الرغم من المناخ المجتمعي المعوق الذي ظهر في الآراء التي استدعت هذا المقال, والذي يسلبهن كثيرا من حقوقهن بدعاوي متخلفة وفهم منقوص للإسلام, لا يستقيم وبدايات عصر الحرية الذي ننعم به الآن, والإسلام منه براء. فماذا ياتري سيصبح حال المجتمعات العربية لو حصلت النساء علي حقوقهن الإنسانية, لا سيما المدنية والسياسية, غير منقوصة. أزعم أن البلدان العربية ستحقق حينها قفزات رائعة في مضمار التنمية الإنسانية تفضي إلي نهضة طال انتظارها في هذه البقعة من العالم. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى