كثر الحديث في الأونة الأخيرة عن لجوء بعض المستثمرين إلي التحكيم أمام المركز الدولي لفض منازعات الاستثمار, والمعروف اختصارا بالأكسيد, علي خلفية صدور أحكام قضائية في مصر بإبطال بعض العقود الموقعة بين الحكومة المصرية وهؤلاء المستثمرين. ولقد صاحب ما سبق سيل من التحذيرات أطلقها البعض ينذرون فيها بالعواقب الوخيمة التي ستلحق بمصر من جراء لجوء المستثمرين إلي التحكيم لدي الأكسيد لما سيترتب, في نظر هؤلاء, من تكبد مصر مبالغ طائلة جراء صدور أحكام بالتعويض لمصلحة هؤلاء المستثمرين. وفي هذا المقال سأوضح أن ذلك عار تماما من الصحة وأن هؤلاء المستثمرين لن يجنوا شيئا إذا ما لجأوا إلي التحكيم لدي الأكسيد, فلقد تواترت الأحكام الصادرة من الأكسيد علي أن حق اللجوء إلي التحكيم أمامها مقصور علي الاستثمار حسن النية, أي الاستثمار الذي يتم وفقا لأحكام قانون الدولة المضيفة للاستثمار وهو في حالتنا القانون المصري. فوفقا للأحكام الصادرة من الأكسيد فإن الاستثمار لايعد استثمارا حسن النية في حالة ما أخل المستثمر بالتزاماته مع الدولة المضيفة للاستثمار أو كان الاستثمار يشوبه الفساد من حيث لجوء المستثمر إلي رشوة موظفي ومسئولي حكومة الدولة المضيفة للحصول علي تسهيلات أو علي مزايا إضافية, والمثال علي النوع الأول من الاستثمار سيئ النية هو دعوي ماليكورب التي رفعت ضد مصر بخصوص عقد بناء وتشغيل مطار رأس سدر. وكانت ماليكورب قد رفعت الدعوي عقب قيام الحكومة المصرية بسحب مشروع رأس سدر من الشركة بعد أن فسخت الحكومة المصرية التعاقد معها نظرا لفشل ماليكورب في تنفيذ التزاماتها طبقا للعقد الموقع بين الطرفين, فلقد كان العقد ينص علي قيام ماليكورب بإنشاء شركة في مصر تكون مهمتها إدارة وتشغيل مطار رأس سدر, وذلك اعتمادا علي ما قدمته ماليكورب أثناء مناقصة بناء مطار رأس سدر من وثائق تؤكد أنها شركة انجليزية متخصصة في مجال إدارة وتشغيل مطارات وأن رأسمالها تبلغ قيمته مائة مليون جنيه استرليني. ثم تبين فيما بعد أن رأسمال ماليكورب طبقا لسجل الشركات الانجليزي لايزيد علي ألفي جنيه استرليني! كما أن ماليكورب حاولت تأسيس شركة مصرية عبر تقديم قائمة بأسماء مؤسسين غير صحيحة تتضمن أسماء وهمية بغرض التحايل علي قانون الشركات المصري, وعلي أنها ضحية مؤامرة من قبل بعض مسئولي الدولة في مصر, ولكن ما أن عرض الفريق القانوني المصري ما سبق من وقائع حتي قضت هيئة التحكيم بعدم اختصاصها بنظر الدعوي نظرا لأن الحماية التي يوفرها التحكيم أمام الأكسيد مقصورة علي الاستثمار حسن النية لا الاستثمار القائم علي الخداع والإخلال بالعقود, ومن وجهة نظري فإن هذا الحكم القانوني يمكن أن نتمسك به في مواجهة كل المستثمرين الذين حصلوا علي أراض أو تسهيلات من إعفاءات ضريبية ودعم طاقة وخلافه في حين أنهم قد أخلوا بالتزاماتهم سواء من حيث إقامة مشروعات علي خلاف ما سبق أن أتفق عليه في العقود المبرمة بينهم وبين الحكومة المصرية كإقامة المنتجعات السياحية بدلا من المشاريع الزراعية أو من حيث امتناعهم عن تنفيذ التزاماتهم بتطوير المنشآت أو الشركات التي تمت خصخصتها كما هو الحال مع صفقة عمر افندي والتي بدا جليا فيها أن المستثمر قد امتنع عن ضخ الأموال اللازمة لأمداد المحلات بالبضائع والخبرة التجارية حتي أضحت خاوية علي عروشها, ففي كل الحالات السابقة لا يستطيع المستثمر طلب حماية استثماره عن طريق اللجوء إلي التحكيم أمام الأكسيد لما اقترفه من إخلال بالعقود الموقعة بينه وبين الحكومة المصرية. أما النوع الثاني من الاستثمار غير حسن النية فهو الاستثمار الذي ارتكز علي فساد مسئولي الدولة المضيفة سواء بالرشوة أو غير ذلك من دروب الفساد فمثاله دعويWorldDutyFree ضد حكومة كينيا, مدعية أن الحكومة الكينية قد صادرت أموال الشركة دون وجه حق وقد سحبت حق امتياز تشغيل محلاتWorldDutyFree في مطاري مومبسا ونيروبي منها بعدما أبطلت المحاكم الكينية عقد الامتياز مما يعد إخلالا باتفاقية حماية الاستثمار الموقعة بين كينيا ودولة الإمارات العربية المتحدة, وردت حكومة كينيا بأن عقد الاستثمار قد تم عقب تقديم رشوة مقدارها مليونا دولار قدمها المستثمر, وهو إماراتي الجنسية إلي الرئيس الكيني أراب موي وبذلك يكون عقدا باطلا لمخالفته القانون الكيني وكذلك النظام العام الدولي الذي يحظر تقديم الرشوة كمدخل لعمل الاستثمارات, فكان ذلك الدفع كفيلا بأن تقرر هيئة التحكيم قرارها بعدم اختصاصها بنظر الدعوي نظرا لأن الحماية التي يوفرها التحكيم لا تمتد إلي القائم علي الفساد. بل وتأتي أهمية دعويWorldDutyFree بأنها كانت قاطعة في أن تقديم الرشوة من أجل الحصول علي تسهيلات للاستثمار يعد سببا كافيا لرفض النظر في دعوي المستثمر ضد الدولة المضيفة للاستثمار, كما أن ظروف والملابسات التي أحاطت بالدعوي شديدة الشبه بالظروف التي تحيط بالدعوي المزمع رفعها ضد مصر أمام الأكسيد, فكينيا كانت قد بدأت في التحول نحو الديمقراطية وترتب علي ذلك إعادة النظر في العقود التي أحيطت بها شبهات الفساد كما هو الحال في مصر الآن, ولما أراد المستثمر أن يؤكد مسئولية حكومة كينيا عما اقترفه نظام أراب موي من فساد عند إبرامه عقد الاستثمار معWorldDutyFree فإن هيئة التحكيم لم تجب طلبه حتي لا تسمح للمستثمر بالاستفادة من جرموأخيرا تجدر الإشارة إلي أن ما سبق قوله ينطبق علي كل صور التحكيم الحر والمؤسسي كالتحكيم أمام غرفة التجارة الدولية وإن كنت قد ركزت في هذا المجال علي الأحكام الصادرة عن هيئات التحكيم بالأكسيد نظرا لما تتمتع به تلك الأحكام من حجية نتيجة نشرها بصفة دورية بواسطة البنك الدولي, وختاما أرجو من صناع القرار المصري ألا يترددوا في قبول اللجوء إلي التحكيم من قبل هؤلاء المستثمرين وأن يتم استغلال تلك الفرصة في المطالبة بالتعويضات منهم جزاء ما اقترفوه من جرائم بحق الشعب المصري واقتصاده. كلية الحقوق جامعة الإسكندرية