لايمكن فهم طبيعة ثورة25 يناير المصرية من دون الوعي بأنها تتميز عن موجة الثورات التي اجتاحت أوروبا الشرقية في نهاية عقد الثمانينيات ومعظم عقد التسعينيات, ثورتنا أطلقت مع ثورة تونس الملهمة موجة ثورات مختلفة. لأنها ببساطة جاءت بعد انكشاف عورات الليبرالية الجديدة وسوءتها, ويبدو أن الكثيرين لم ينتبهوا إلي هذه الطبيعة حتي الآن, بما في ذلك حكومة المهندس عصام شرف ووزراء مجموعتها الاقتصادية. والدليل علي هذه الطبيعة المتفردة لايقتصر علي أهمية مكون العدالة الاجتماعية في مظاهرات الثورة منذ انطلاقها يوم25 يناير وشعاراتها, بل علينا أن نتأمل تراثا طويلا سبق الثورة ومهد لها من نضالات المصريين في الحقول والمصانع, وحتي في عقر البيروقراطية العتيقة( حالة الضرائب العقارية) ضد الخصخصة والفساد واستلاب الحق في توزيع عادل للثروة وفي الحريات الاجتماعية والسياسية والنقابية ولانبالغ عندما نقول ان أيام الثورة وميدان التحرير كانت حافلة بالرموز ضد عولمة الليبرالية الجديدة, تلك الرأسمالية المتوحشة, والتي كان مبارك ونظامه ورجال أعماله وأبواقه الإستراتيجيين والإعلاميين طبعة مصرية منها. لذا فإن محاولة التأسيس ل نظام بديل بعد25 يناير يجب أن تنطلق من الوعي بأننا نحتاج إلي أبعد من الحريات الموصوفة في روشتة الليبرالية الجديدة لأوروبا الشرقية قبل مطلع الألفية الجديدة بمعناها المنقوص المشوه, وبأننا نحتاج أيضا إلي ابتكار شيء يختلف عن رأسمالية الدولة الوطنية, كما كانت عليه في التجربة الناصرية خلال عقد الستينيات, رغم أن لها حنينا عند قطاعات شعبية واسعة وفضلا غير منكور علي الطبقة الوسطي والعمال وصغار ومتوسطي الفلاحين وعلي الأمن القومي للبلاد, وبالقطع فإن أي نظام إعلامي وصحفي جديد لا يمكن له أن يتبني مصطلحات الليبرالية الجديدة سيئة السمعة من قبيل الإعلام الحر المستقل وإعادة الهيكلة وغيرها فلا معني لنظام إعلامي جديد الآن لا يحصن نفسه من طغيان وفساد واحتكار رجال الأعمال وسطوة الإعلانات ولا يتعظ من جناية برامج الليبرالية الجديدة علي فرص ديمقراطية ومهنية الإعلام في دول أوروبا الشرقية. وما يدعو للحديث هنا عن الإعلام تحديدا أنه يصلح نموذجا لدراسة محاولة تكيف الليبرالية الجديدة عندنا في هذه المرحلة, فعلاوة علي غياب الوعي باختلاف طبيعة ومهام ثورات مابعد انكشاف سوءات الليبرالية الجديدة عن الموجة الأوروبية الشرقية, ويتصدر المشهد إلي حينه ذات الأبواق الاستراتيجية والإعلامية وبنفس الأساليب والمناهج, يسيطرون علي المراكز الحاكمة لتدفق المعلومات, ويحتكرون مساحات الرأي حتي في الصحف الصادرة بأموال الشعب, ويدهش المرء من جرأة هذه الأبواق علي تزييف الحقائق وقدرتها علي التلون, وكأنها لاتزال ترتكن إلي مراكز قوي داخل النظام. يمتدحون الخصخصة بفسادها وإهدارها للثروة والأمن القوميين وحقوق العمال, ويزعمون أن تطبيق نظام مبارك الديكتاتوري التابع لروشتة صندوق النقد الدولي وحرفيا أسفر عن نتائج رائعة بكل المقاييس, وعندما يتساءلون بلسان حالهم: لماذا فشلنا؟ لا يمتلكون أي قدر من الشجاعة أو الصدق أو المصداقية و البصيرة العلمية والبحثية, وقد اختبرنا معهم هذه البصيرة قبل ثورة25 يناير ففشلت فشلا ذريعا يدعون إلي الليبرالية وهم في مديح طبعتها المصرية المتوحشة المشوهة يتحدثون لغة خشبية ترجع إلي النظم الشمولية التعبوية, وفي سيرة انضمام كل منهم إلي لجنة السياسات والحزب الوطني بخديعة التيار الإصلاحي دليل علي خيانة الحداثة وأبسط القيم الديمقراطية والمؤسسية( الانضواء تحت رئاسة ابن الرئيس الدكتاتور والمعين في حزبه الحاكم محترف تزويرالانتخابات). ولا يدهش المرء إذا ماراجع سيرة أبواق الليبرالية الجديدة الملحقين بلجنة السياسات, ففشلهم فيما يدعونه من برنامج إصلاح من داخل الحزب الواحد والنظام الديكتاتوري بعد سقوط بغداد عام2003 لم يكن مجرد أخطاء مرحلة واحدة وفي قصة صعود كل منهم علي حساب زملائه الأكفاء والأكثر استقامة تاريخ طويل في خدمة, الدكتاتوريين العرب وأنظمة ماقبل الحداثة من صدام العراق إلي حكام الخليج, وقد انقلبوا علي الأول بعدما استنفد أغراضه لدي المصالح الأمريكية في إنهاك الثورة الإيرانية الوليدة بحرب السنوات الثماني(1980-1988) وسرعان ما استبدلوا آلهة مقدسة بأخري, كما وصفهم بحق المفكر المحترم إدوارد سعيد قبل نحو عشرين عاما. والآن يتكشف كيف أنهم أداروا مراكز بحوث ومؤسسات صحفية في خدمة لجنة سياسات نجل مبارك وأجهزة أمنة بالمخالفة لقواعد القانون وللشفافية واستقلالية الصحافة, وكيف مارسوا ألوانا من الفساد السياسي والمهني والمالي والشللي و في النهاية تواطأوا وحرضوا علي قتل شعبهم بالرصاص في الشوارع, بعدما انخرطوا في الدفاع عن نهبه وتزوير إرادته لسنوات وسنوات. وعلينا أن نلاحظ الآن كيف التقي كتبة ووكلاء دعاية لجنة السياسات والحزب الوطني وعدد من رموز الليبرالية الجديدة خارجها علي تأييد ترشيح الدكتور مصطفي الفقي أمينا عاما للجامعة العربية, وبكل ما يمثل هذا الترشيح من طعنة للثورة واستدعاء لقيم نظام مبارك ورموزه وعلينا أن ندرك كيف يديرون معركة مستقبل الاقتصاد المصري علي خلفية بث الذعر وإنكار أي قدرة علي إطلاق تنمية معتمدة بالأساس علي الذات, كما علينا أن ننتبه إلي أن تصدر هؤلاء لمشهد الدفاع عن الدولة المدنية هو أكبر طعنة توجه إلي مشروع هذه الدولة, وأنهم الوقود الخفي للفتن الطائفية, وذلك لأنهم وببساطة أبرز وأخطر من خان مدنية الدولة والحداثة, ولأنهم يفتقدون المصداقية أمام شعبهم والصدق مع أنفسهم, وربما كان قدر مصر الآن أن تقود موجة ثورات جديدة, وتبتكر طريقا منفردا في بناء الدولة والتنمية والحداثة, وهذا هو الأهم, لكن تلك قصة أخري. المزيد من مقالات كارم يحيى