لا يعترف كثير من العرب بصحة الوصف الذي تخلعه علينا أوساط غربية متزايدة, وهو أننا الاستثناء الأبرز في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم. ولكن هؤلاء الذين يروننا استثناء من التقدم الذي يحدث في العالم. لا يعترفون بأن زرع إسرائيل في قلب منطقتنا مسئول عن جزء كبير من الخراب الذي حدث فيها خلال العقود الستة الأخيرة, خصوصا علي مستوي ثقافة المجتمع, فقد انحسرت قيم متقدمة وحلت محلها أخري شديدة التخلف بتأثير الصراع الذي ترتب علي وجود إسرائيل, والدعم الغربي المتواصل لها والمأساة التي وقعت لشعب فلسطين وما اقترن بها من مظالم أحدثت تغييرا تراكميا في العقل الجمعي وطريقة التفكير, وبصفة خاصة في الموقف تجاه الآخر علي كل صعيد. وأنتج ذلك تراجعا مستمرا في قيمة التسامح التي كان رواد الفكر العربي الحديث يسمونها حتي أوائل القرن العشرين التساهل فقد انحسر التسامح في المجتمع وأخلي الطريق لتعصب أخذ يزداد تجاه الآخر المختلف بوجه عام. وبالرغم من أن التعصب يبدو أكثر وضوحا تجاه الآخر الديني في مصر, فهو أوسع نطاقا إلي حد أنه لا يقف عند حد. وينتج التعصب الديني احتقانا تحت السطح يصعد إلي أعلاه من وقت إلي آخر في أحداث درجنا علي تسميتها فتنة طائفية. ولما كان انتشار التعصب الديني هو العامل الأكثر تأثيرا في هذا المجال, فمن الطبيعي والضروري أن يتحصن القلقون علي الوحدة الوطنية, والخائفون علي تماسك المجتمع بمبدأ التسامح فيدعون إليه ويحضون عليه. وهذا أمر محمود بطبيعة الحال. ولكن انتشار التسامح في أي مجتمع لا يحدث نتيجة الدعوة إليه فقط, وإنما عبر تمسك دعاته به وممارسته فعليا وتقديم النموذج تلو الآخر في الأخذ به تحت أي ظروف, وتطبيقه باستقامة كاملة. وإذا لم يحدث ذلك ويلمسه الناس, تظل الدعوة إلي التسامح إعلاميا وخطابيا معلقة في الهواء لا تجد طريقها إلي الأرض. وهذا هو الذي يفسر ازدياد التعصب نطاقا وحدة, في الوقت الذي تزداد الدعوة إلي التسامح إعلاميا وخطابيا. فالنخب التي تدعو إلي التسامح لا تبدي شيئا منه تجاه بعضها البعض سياسيا وفكريا إلا فيما قل أو ندر. فالكثير منها يظن أنه يمتلك الحقيقة, أو أنه يمثل الحق أو الخير بما يضع المختلف معه في خانة الخطأ أو الشر. ويظهر هذا الازدواج المتواصل في المعايير بصورة أخري لا تقل خطرا بالرغم من أنها موسمية في الموقف ضد السماح لعدة مئات من اليهود بالاحتفال بمولدأبو حصيرة في إحدي قري محافظة البحيرة. فالصخب الذي يثيره البعض ضد هذا الاحتفال, وبينهم من يدعون إلي التسامح الديني, ويصمت تجاهه باقي دعاة هذا التسامح, إنما يساهم في تدعيم الميل إلي التعصب الديني في مجتمعنا بوجه عام. وقد تكرر هذا الصخب في الشهر الماضي عندما جاء نحو ستمائة يهودي لإقامة الاحتفال. وبغض النظر عن ملابسات هذا الموضوع وتفاصيله, فالتسامح الديني لايتجزأ. ولذلك لا يمكن إدراك التسامح بين المسلمين والمسيحيين, في الوقت الذي يستمر التعصب ضد أي آخر ديني. وهذا فضلا عن عدم وجود أي منطق للصخب الذي يحدث احتجاجا علي حدث بالغ الضآلة من حيث حجمه, ومحدود للغاية من حيث أهميته. فالاحتجاج بأن أبو حصيرة ليس مد فونا في المكان الذي يقام فيه الاحتفال يفتقد أي جدية, لأنه ينطبق علي الكثير من الموالد الدينية. فهناك عدة أضرحة في أربعة بلاد يقال إنها لسيدنا الحسين علي سبيل المثال. وتقام موالد في كل منها, بالرغم من استحالة التيقن من دفنه في أي منها. أما الاحتجاج بأن بعض من يحتفلون بمولد( أبو حصيرة) يأتون من إسرائيل فهو يعبر عن ازدواج مركب في المعايير, لأنه يركز علي بضع عشرات ويتجاهل آلاف الإسرائيليين الذين يدخلون مصر في كل عام لأغراض أخري قد يكون بعضها أكثر خطرا من الاحتفال بمناسبة دينية. فإذا كانت المشكلة في المحتفلين الذين يأتون من إسرائيل, فلا مبرر لإثارة صخب ضد قدوم يهود من المغرب مثلا. وفي هذه الحالة يكون الاحتجاج علي السماح بدخول إسرائيليين إلي مصر موقفا سياسيا محمودا, وليس تعصبا دينيا مرذولا. غير أن استمرار الصخب الذي يحدث ضد إقامة المولد في حد ذاته ويساهم في نشر التعصب الديني في مجتمعنا بشكل عام يعني أننا لا نستوعب أيا من دروس الصراع الطويل مع إسرائيل والصهيونية العالمية. ومن هذه الدروس أننا نتحمل مسئولية لا يمكن إنكارها عن تعميق الخراب الذي ترتب علي وجود إسرائيل. فما كان للتعصب الديني الذي أنتجته يهودية الكيان الإسرائيلي أن يبلغ ما بلغه إلا لأن بعض ممارساتنا انطوت علي خلط بين الصهيونية واليهودية, ولأن الوعي بالفرق بينهما لم يصمد أمام هذه الممارسات التي كان بعضها مقصودا. فقد سهل الخلط بين اليهودية والصهيونية مهمة من سعوا إلي الخلط بين الدين والسياسة في بلادنا. وشاركهم آخرون يختلفون معهم سياسيا وفكريا في نجاح سعيهم هذا من حيث لا يقصدون. ومازالوا يساعدونهم في ذلك, ويشاركون في تعميق التعصب الديني في آن معا, سواء عبر ممارسات من نوع الصخب الذي يثار ضد الاحتفال بمناسبة لا قيمة لها مثل مولد أبو حصيرة في يناير من كل عام, أو من خلال الجمود العقلي الذي يحول دون مراجعة أخطاء تاريخية ويؤدي إلي المزيد منها, ولعل آخر مثال علي ذلك الكتاب الذي صدر أخيرا في بيروت تحت عنوان( وادي أبو جميل قصص عن يهود بيروت) لمؤلفته ندي عبد الصمد التي تصر مجددا علي أن اليهود اللبنانيين هاجروا إلي إسرائيل لا لشئ إلا لأنهم يهود. والطريف أنها تؤكد أن أوضاعهم كانت رائعة, في الوقت الذي أسهبت في وصف ما سمته الحالة الاجتماعية التي أخذت في التأزم في لبنان, والمخاوف التي اشتدت في أوساطهم في ظل تصاعد الصراع العربي الإسرائيلي, والإغراءات التي نشطت الوكالة اليهودية في تقديمها لهم, لكي يهاجروا مستثمرة الأجواء التي أحاطت بهم. ولاتختلف قصة هجرة يهود لبنان إلي إسرائيل عن غيرها في دول عربية أخري تتحمل السلطات فيها مسئولية كبري, لأنها عجزت عن توفير الأجواء اللازمة للمحافظة علي بقاء جزء من مواطنيهاوإحباط خطط الحركة الصهيونية لتهجيرهم, فلم تدرك تلك السلطات أن بقاء اليهود مواطنين محترمين هو سلاح في مواجهة إسرائيل,و تدعيم في الوقت نفسه لمبدأ التسامح الديني الذي ندفع الآن أثمانا غالية لانكساره ثم انحساره. وإذا كنا عاجزين حتي الآن عن استيعاب دروس تلك المرحلة التي غادرنا فيها يهودنا, فنحن أكثر عجزا من إدراك أن مواصلة الخلط بين اليهودية والصهيونية تكرس التعصب الديني الذي يخلخل مجتمعاتنا, ويخدم إسرائيل في آن معا.