في سنوات الخمسينيات والستينيات راجت الأقاويل والكتابات عن ثورات العالم الثالث التي وقفت وراءها قوي عالمية مثل أمريكا من اجل ملء الفراغ بقوي مضمونة التوجهات بعد إنهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة وبالتالي كان التصور الأقرب هو وقوف القوي العالمية الجديدة المتمثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية وراء حكم العسكر في دول عديدة من بينها مصر مثلما جاء في أدبيات دبلوماسيين من الغرب والشرق ثم ظهر المعسكر الشيوعي وخرج داعما رجاله في انظمة متسلطة علي النموذج السوفيتي في الشرق الأوسط وامريكا اللاتينية وغ وقد ظل العالم الغربي أسير تلك الأفكار عن ضرورة وقوف قوي كبري وراء التغيير في المناطق المحورية للمصالح الكبري وبالقطع في القلب منها الشرق الأوسط والعالم العربي.الثورة الإيرانية علي النقيض لم يثبت ضلوع القوي الغربية فيها بل جاءت عودة الإمام الخميني من منفاه في فرنسا ليركب الثورة الشعبية ضد الشاه ولم يكن انصاره هم القوام الحقيقي للثورة بل أحزاب يسارية وليبرالية عانت من قمع النظام السابق في طهران.ورغم ما سبق ظلت تلك التفسيرات هي الأكثر تأثيرا وهيمنة علي النقاش العالمي ولا مجال للثقة في طموحات شعوب تريد نظاما سياسيا سليما ينبع من داخلها وليس بترتيبات خارجية! فما هو السياق العالمي غير التقليدي الذي نضجت فيه تجربة الثورات العربية, وهل بالضرورة الولاياتالمتحدة طرفا فاعلا في وسط الجدل الدائر حول ماهية الثورتين الشعبيتين في مصر وتونس اللتين أطاحتا بالنظامين الحاكمين في أسابيع قليلة, كان من الضروري أن تخرج أصوات تثير الجدل حول جهات تقف وراء الموجة الثورية العاصفة خاصة في بلد هي بمثابة القلب في العالم العربي وتمتع نظامها الأمني تحت حكم الرئيس السابق حسني مبارك بسمعة إرتقت إلي المستوي الدولي من حيث القدرة علي وأد الحركات المعارضة واستخدام أساليب محكمة في الإستجواب ونزع الإعترافات بما لا يقارن في بلدان أخري.وقد أثار موقع'ويكيليكس'للوثائق السرية الجدل قبل ايام حول إمكانية إرتباط حركات ثورية في مصر والعالم العربي بمؤسسات امريكية معروفة بالإسم, وبعضها يعمل علانية في القاهرة منذ سنوات في التخطيط لإنتفاضات ضد الأنظمة الحاكمة في دول بعينها مثل مصر وأن شباب الحركات الثورية شاركوا في برامج تدريب وورش عمل لثقل قدراتهم في الفترات التي سبقت الإقدام علي ثورة25 يناير. تلك البرقيات الدبلوماسية المنزوعة من السياق تقدم صورة مغلوطة في حوادث كبري مثل الثورة المصرية حيث يمكن التعليق علي المنطق الدي يستخدمه البعض في نقاط محددة وهي: الأمر الأول أن ورش العمل وبرامج التدريب ليست وليدة اللحظة أو عملا سريا فقد ارتبطت منظمات أمريكية وأوروبية كثيرة بمنظمات ومعاهد ومراكز محلية تعمل علي ترسيخ أفكار الحكم الجيد وحقوق الإنسان والديمقراطية تحت سمع وبصر أجهزة الدولة المختلفة علي مدار سنوات, وشهد عمل تلك المنظمات والمعاهد قفزات نوعية نتيجة اكتساب خبرات دولية ورفع مستوي الإحتكاك بالخارج في الأعوام العشرين الأخيرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وموجة المد الديمقراطي في أوروبا الشرقية التي قدمت دروسا مهمة في مقاومة السلطة الغاشمة والحكومات المستبدة وليس تقديم المصالح الوطنية علي طبق من ذهب او فضة لمصالح الدول الكبري في الغرب. والأمر الثاني ان الحكومات المستبدة تستخدم شماعة جاهزة لدمغ كل من يتعاون في المجال الحقوقي والديمقراطي العالمي بخدمة الأجندات الخارجية بينما في واقع الأمر هناك أنظمة كانت تستفيد من برامج المؤسسات الغربية من خلال إغراق المجتمع المدني بمؤسسات موالية للحكومات المستبدة وهو النمط الذي برع في التسويق له فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الحالي في روسيا عندما تفتق ذهن رجاله علي انشاء منظمات أهلية'تؤمم'المجتمع المدني لمصلحة السلطة وكانت النتيجة هي الحالة الراهنة في روسيا التي تراجعت فيها الممارسة الديمقراطية الحقيقية لمصالحة الكيانات المرتبطة بحزب السلطة.وقد كانت تلك الخطة سارية المفعول في مصر قبل ثورة يناير بعد تنامي الحركات والمنظمات الأهلية المثيرة لقلق النظام السابق. والأمر الثالث أن عنصر المفاجأة الذي واكب عملية سقوط حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس يشير إلي إرتباك كبير في دوائر صناعة القرار في واشنطن ودول غربية أخري حيث اتضح عدم الإستعداد الكافي لاختفاء نظام موال وظهور نظام جديد وبالتالي لم تكن الولاياتالمتحدة تحديدا في وضع يسمح بالإمساك بأوراق اللعبة حيث كان التصور-علي مدي سنوات-أن دعم المجتمع المدني في دول بعينها لايخرج عن تقديم خبرات وهو دعم لايخرج عن نطاق تغيير قواعد الممارسة السياسية نحو مزيد من الانفتاح وتحسين حقوق الإنسان في إطار النظام الموجود في السلطة وليس اقتلاع الأنظمة الموالية, ووفقا للدبلوماسيين الأمريكيين المتعاملين مع الملف المصري لم تكن هناك خريطة واضحة للحركات الشبابية قبل الثورة ولم تكن عملية رصد المجموعات المنتشرة علي موقع'الفيس بوك'تلقي الاهتمام أو التقدير المناسب نتيجة عدم وجود حقيقي لتلك الحركات في الواقع السياسي أو الشارع المصري والإرتكان إلي أن الأفكار الثورية الخلاقة تخرج من الغرب وليس من مجتمعات تطورها السياسي أقل بكثير من المجتمعات المتقدمة. والأمر الرابع إغفال ما يسمي في الأدبيات الثورية اليوم ب'قوة ضغط الأقران'وهي المستوحاة من تجربة المقاومة الشعبية في صربيا وتسرد الكاتبة الأمريكية تينا روزنبرج في كتابها الجديد'إنضم إلي النادي'قصة ثورة الطلبة في هذا البلد والتي قيل أنها كانت نبراسا لدول أخري من بينها مصر وتقول'في أكتوبر1998 التقت مجموعة من طلاب جامعة بلجراد في مقهي حول الرغبة في اسقاط الرئيس اليوجوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش. للقيام بذلك فإن المجموعة كانت بحاجة إلي تحفيز الصرب علي النزول الي الشوارع للاحتجاج.جماعة الطلاب التي أطلق عليها'حركة أوتبور' ومعناها المقاومة وجعلوا من أنفسهم منفتحين علي انضمام أي شخص يرغب في المشاركة مع استخدام الموسيقي والنكات والمسرح والقمصان'.وتوضح تينا روزنبرج- كاتبة عمود نيويورك تايمز والحائزة علي جائزة بوليتزر عن كتابها حول أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية في الكتاب الجديد الذي يصف قوة الاتصال بين البشر كيف يمكن أن تتحول قوة'ضغط الأقران'في العالم إلي تقديم نماذج لمقاومة الطغاة ليست بالضروة قوة هدامة مثلما يروج في بعض الأوساط المصرية والعربية. وقد أثمرت حملة أوتبور عن إنضمام الآلاف قبل ظهور الفيس بوك ثم بعد عامين لعبت الدور الرئيسي في سقوط ميلوسيفيتش عام2000 وقد بدأت الحركة نشاطها بفكرة بسيطة وهي وضع صورة للدكتاتور السابق علي'برميل'ثم ترك الناس تركله بمضارب البيسبول في الشارع وهو يتدحرج أمامه في مشهد لا يخلو من رمزية. وقد نقل الصحفي الأمريكي الشهير نيكولاس كريستوف في مقال بجريدة نيويورك تايمز يوم الأحد الماضي عن قيادات شابة في حركة6 أبريل المصرية أنهم قد حصلوا علي دورات تدريبية نظمتها حركة'أوتبور'الصربية بعد نجاحها ضد الدكتاتور السابق تاكيدا لظاهرة التواصل الإنساني أو الاستفادة من'ضغط الأقران'في سياق عالمي جديد غير مسبوق.وقال احد شباب الحركة أن'الاساليب التي تعلمناها من صربيا هي ما قمنا بتطبيقه في القاهرة'. وأوضح أن الدرس البالغ الأهمية هو أسلوب'قوة اللاعنف'فلو قام شخص ما بضرب المتظاهرين لا يقوم المتظاهرون السلميون بمهاجمته, فلا استخدام لأي أعمال عنف ضد المهاجمين.مجرد التقاط الصور الفوتوغرافية لهم ووضعها علي شبكة الإنترنت. علي وجه الدقة حسب روزنبرج كانت هناك مجموعة تسمي'كانافاس'تابعة للحركة الصربية تقوم علي دعوة وتدريب النشطاء من جميع أنحاء العالم علي المقاومة السلمية للنظم الدكتاتورية. وقد برع المصريون في تطوير أدوات الثورة السلمية بعد ظهور وانتشار الفيس بوك ثم في عمليات الحشد التي سبقت ثورة25يناير والتي أطلقت من الوهلة الأولي صرخة'سلمية'ولم تنزلق إلي الرد علي الرصاص الحي فكانت قوتها في اللاعنف, نعم كان'دليل جين شارب لإسقاط الطغاة'هو أحد أدبيات الحركة الصربية الشابة وهو الدليل الذي وضعه استاذ مغمور في جامعة بوسطن من خارج المؤسسات الكبري في واشنطن وبعيد عن المنظمات التي تعمل في مجال نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في واشنطن وهو ما شكل مفاجأة أخري للتيار الرئيسي في أمريكا-حيث كان'دليل شارب'منتشرا بلغات عدة في السنوات القليلة الماضية ومن بينها اللغة العربية. وتقول روزنبرج إن ضغوط الأقرانPRESSUREPEER نوع من العلاج الاجتماعي..فهو'وسيلة لحمل الناس علي تغيير سلوكهم وإحداث ليس فقط تغيير في السلوك ولكن في كثير من الأحيان تغييرا اجتماعيا علي نطاق واسع وهو تغيير لا يعتمد علي منح الناس معلومات جديدة او استنفار مشاعر الخوف ولكن من خلال منحهم مجموعة من الزملاء الجدد يمكنهم أن يتوحدوا معا من أجل هدف ما'. تلك بعض ملامح الصورة علي المستوي العالمي..والأجدر أن يلتفت إلي نبل مقصد شعب تحرك في مواجهة حكم فاسد وليس البحث في دفاتر المؤامرات الكونية..وما أكثرها!