بقلم: د. محمد محمد داود : الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس, لها حق الصدارة في المجتمع الإنساني, لمزايا وخصائص أبرزها علي الإطلاق أنها الأمة الوسط في كل شيء, فهي الأمة المستخلفة في الأرض, لا لسبب عنصري, بل لأنها بوسطيتها تلك تستحق الخلافة. وتأتي أهمية الوسطية في الإسلام الآن, لأن المسلمين اليوم وهم يواجهون مشكلات الحضارة وتحديات العصر ومعركة البقاء , لا يواجهون ذلك كله وهم علي منهج واحد, بل هنالك مناهج نشأت عن الابتعاد عن المنهج الوسط الذي ارتضاه الله لنا, قال تعالي: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون, الأنعام:153]. وهو المنهج الذي كان عليه النبي وآله وصحابته وكل ابتعاد عن المنهج الوسط يولد الفرقة والتناحر والتشتت, فلم تظهر الفرق الإسلامية المتنازعة إلا بعد ظهور الغلو في فهم الدين إفراطا أو تفريطا, وكان المسلمون قبل ذلك أمة واحدة, فصاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا, بل ويضع بعضها السيف في رقاب بعض, ويلعن أتباع كل طائفة أتباع الطائفة الأخري, فصار بأسنا شديدا, ومن هنا بدأ التصدع والشرخ في القلعة الإسلامية, وكبر هذا الصدع وامتد علي مرور الزمان, وكثرت الفتن, وتشعبت الآراء, وكانت النتائج مرة, وبحسبنا أن نسأل أنفسنا: كيف سقطت القدس؟ وكيف سقطت بغداد؟ وكيف زرعت الفتن في أرض الإسلام؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من مزق وحدة المسلمين؟ ومن الذي جعلهم في أسفل درجات السلم الحضاري؟ سيقولون: الأعداء, والمؤامرة... ولكن: ماذا يصنع الأعداء كلهم لو كان المسلمون في تماسك واتحاد؟ ماذا تفعل جرثومة المريض إذا كانت مناعة الجسد قوية؟ فليبدأ كل منا بنفسه.. فكلنا عن الوحدة الإسلامية, فمن المتفرقون؟! وكلنا يتكلم عن الوسطية, فمن الغلاة؟! المشكلة أننا أمام تيارين في المجتمع, كلاهما في حالة عداء مع الآخر: التيار الأول: تيار التفريط في الدين وثوابته, والتهاون بحقوق الدين وواجباته واتباع الهوي, وإيثار الشهوات. والتيار الثاني: تيار الغلو والتشدد, الناشيء من سوء فهم لحقيقة الدين ومقاصده, أو كرد فعل نفسي مضاد لتيار الانحلال والتفريط, ويصحب الغلو دائما تعصب وهوي. والمنهج النبوي مثال للوسطية, روي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال:( جاء ثلاثة رهط إلي بيوت أزواج النبي صلي الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلي الله عليه وسلم, فلما أخبروا كأنهم تقالوها أي: رأوها قليلة وقالوا: أين نحن من النبي صلي الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال آخر: وأنا أصوم الدهر فلا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء, فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله, وأتقاكم له, لكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني. وكما أن الوسطية ضد الغلو والتطرف, فهي أيضا ضد التفريط, فالوسطية لا تعني التنازل عن الهدي الرباني, روي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خير النبي صلي الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما, ما لم يكن إثما, فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: من الذي يعيد الأمة الوسط إلي المقدمة ويبعث فيها الحياة والروح؟ لكن الذي يعيد الأمة الوسط, هو أن تعود الأمة إلي هدي ربها طائعة, بأن تتخلي عن الفساد, وعن سلبياتها المتراكمة التي صارت أخطر علينا من أعدائنا, وأن تسعي لتؤدي دورها, ولابد في سبيل ذلك من التضحية بالوقت والمال والنفس, بكل ما نملك.