الأهرام المسائي تفتح ملفات إصلاح الفكر الديني إيمانا منها بضرورة إعمال العقل وإطلاق الاجتهاد إلي مداه الواسع, دعوة منها إلي وسطية دينية إسلامية ومسيحية, ويقينا منها أن إصلاح الفكر الديني يعد الخطوة الأولي علي طريق المواطنة والحرية والإسهام في الحضارة الإنسانية. تجديد الفكر والخطاب الديني أولي درجات الرقي والتقدم, فالفصل بين الدين والحياة يعرقل تقدم المجتمعات, هذا ما أكده الدكتور أحمد السايح أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر وأحد دعاة التنوير, حيث قال إن اعداءنا يريدون أن نظل منشغلين بالتفاهات من الفتاوي والتفاصيل الدقيقة لأمور الدين, وأن ننبذ الدنيا, والتقدم حتي نظل عالة علي الغرب, مؤكدا أن الفكر المتشدد اخترق دور العبادة والفضائيات والقائمين عليها, وهو ما يهدد استقرار مجتمعنا ويعرقل أي خطوات نحو التقدم, فإلي نص الحوار... * ما هو تعريفك لمفهوم إصلاح الفكر الديني وكيف يكون؟ ** الفكر هو ما يدور حول مبادئ وقيم الإسلام تفسيرا أو تأويلا, وبالتالي إذا أردنا أن نصلح الفكر أي أن نخاطب الناس بأفكار جديدة ومفاهيم جديدة يجب فتح باب الحوار للفكر الجديد, فالقرآن يحضنا علي الفكر والتدبر في القرآن خاصة آيات الله التي ختمت بقوله تعالي لعلكم تعقلون, إن في ذلك لآيات لأولي النهي ورب العزة يقول أفلا يتدبرون القرآن أم علي قلوب اقفالها إذن التدبر والتفكير والتعقل هو الذي ينتج الفكر الإسلامي الصحيح أما الخطاب الديني, فالمقصود به خطاب الدعاة والمسئولين عن تعليم وتربية وتثقيف المجتمع, ويجب أن ينطلق الخطاب من فكر جديد يواكب العصر, ويأخذ من الماضي العظة ولا ينغلق علي فهم السلف وتعاليم الإسلام تدعونا إلي ذلك مثل قوله تعالي قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وقوله قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق إذن النظر والفهم وأخذ العبرة ومواكبة العصر يجب أن تنطلق من مضمون الخطاب الديني. * وما تقييمك للخطاب الديني الحالي؟ ** الخطاب الديني حاليا بعيد عن المجتمع بسبب الفصل بين الدين والحياة, وجعل الدين للعبادات فقط, رغم أن الدين معاملات وشئون حياة, وليس تعبدا وزهدا فقط, والدول التي تقدمت اعتدمت علي خطاب ديني دنيوي يحبب الحياة إلي الناس ويعتبر الحياة جزءا أساسيا من الدين. * البعض يخلط بين مفهوم تجديد الخطاب الديني, وبين الدين نفسه كنصوص ومن ثم يعتبرونه مساسا وتحريفا للدين فما رأيك؟ ** هؤلاء هم المهابيل الذين قال تعالي عنهم إنا وجدنا آباءنا علي أمة وإنا علي آثارهم مهتدون وهؤلاء الذين انغلقوا علي كتب التراث, وهذه الكتب تحتاج إلي تنقية, فعكفوا علي ما فيها وتربوا ونشأوا علي فكر السلف, وللأسف مثل هؤلاء لا يتدبرون واقع الحياة الآن, وعندما يخاطبون الناس يركزون علي التخويف والترويع من الموت والقبر والعذاب, ولو وجهوا كلامهم وساعات الخطبة في إصلاح الحياة وتعاملات الناس بالأمانة والصدق والأخلاق لكان أفضل, وهذا نتاج خطاب متخلف بعيد عن مبادئ القرآن الكريم وحركة الحياة, لأن الله خلق الإنسان ولم يشاوره وجاء به إلي هذا الوجود, ولم يتركنا الله هملا, بل أرسل لنا الرسل مبشرين ومنذرين ليرتبوا لنا أمورنا الحياتية, فينبغي أن يكون الخطاب الديني منطلقا من الحياة, والعمل علي تطوير مجتمعاتنا, وليس انغلاقا علي المظاهر التي تنسب للدين كاللحية والجلباب القصير والنقاب الذي ليس من الدين في شيء. * وكيف نربط الخطاب الديني بإصلاح مجتمعاتنا؟ ** رغم قول الله تعالي وقل اعلموا وهو أمر واجب النفاذ إلا أن القائمين علي الخطاب الديني يقللون من أهمية العمل والحياة, وبالتالي بنبغي علينا الإنطلاق من العبادة إلي العمل والإنتاج الذي يفيد المجتمع, والعمل من أدق الفروض الدينية التي حض عليها القرآن, فالأمة الإسلامية الآن عالة علي غيرها لأن الخطاب الديني فيها متخلف, ولم نجد أحدا يحدثنا فيها عن الصناعة والزراعة, وكيفية الإنتاج إنما يتكلمون عن صلاة التراويح التي أصبحت مظاهرة والتفاخر ببناء المساجد والكنائس وابتعدوا عن تعاليم الدين المنظمة لحياة الناس. * ما هي وسائل إصلاح الفكر والخطاب الديني؟ ** لا شك أن إصلاح الخطاب الديني يحتاج إلي جهود من المخلصين العقلانيين المستنيرين الذين يفهمون القرآن وأحاديث النبي, والإسلام دعوة إلي العمل والإصلاح والمواطنة الصحيحة, فيجب وضع قراءة صحيحة للدين وإصلاح الدعاة وتنقية كتب السلف لاختيار ما يصلح منها لواقعنا ووضع فهم جديد لتعاليم الدين لا يتناقض مع القرآن وأحاديث النبي, فالذين يكفرون المجتمع يعتمدون علي بعض ما جاء في كتب التراث من أحكام بالتكفير والتبديع, ثم ننشر الفكر الصحيح علي المجتمعات, وأطالب وزير الأوقاف بنشر كتب الفلسفة وعلم الكلام التي لا تتعصب لمذهب وتنطلق من التوحيد لمواجهة كتب التكفير. * هذه الخطوات في رأيك هل تفضي بنا إلي الطريق الصحيح؟ ** الهدف هو أن نصل إلي الفهم الصحيح للإسلام, وإذا فهمناه استطعنا أن نعمل عمل الأقوياء, كما قال تعالي وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل فالقوة هنا العلم والفهم الصحيح لعلاقة الدين بالحياة. والرسول يقول خير الناس انفعهم للناس وللأسف نحن عالة, والغرب هنا أفضل منا لأنه ينفعنا والمفترض العكس أن نكون نحن الأنفع لهم لأن ديننا يأمرنا بالتقدم والتطور, وأن نكون قوة اقتصادية واجتماعية وسياسية. * ومن تقع عليه مسئولية انطلاق الفكر الديني للتقدم؟ ** إذا كنا نتحدث عن وزارة الأوقاف مثلا, فإن لها دورا حاليا في مسألة الإصلاح, وما تقوم به وزارة الاوقاف وعلماء الأزهر من إصلاح للدعاة يحتاج إلي اصلاح, فالأوقاف يقع عليها العبء الأكبر في مسئولية الإصلاح, وعليها أولا أن تنشر الدعاة المستنيرين في بقاع مصر, خاصة أننا لدينا103 آلاف مسجد تقام بها خطب الجمعة, لو أن هذه الخطب وجهت لتعليم الناس أسس علاقة الدين بالحياة والإنتاج وضرورة إتقان العمل لكان التقدم حاضرا, لكنهم حولوا خطب الجمعة إلي حكايات وقصص عن الماضي والغيبيات لا تمت للواقع بصلة. * ولكن البعض يشير إلي تراجع الخطاب الديني في الأزهر والأوقاف؟ ** لاشك أن هناك اختراقا للأزهر, ورجال الأزهر عندما ذهبوا للتدريس في جامعات السعودية اخترقهم المذهب الوهابي بأفكاره الرجعية البعيدة عن تطور الحياة وتعاليم الإسلام, وأنا أتعجب فالمذاهب الإسلامية المتشددة لم تستطع أن تخترق الأزهر علي مر تاريخه إلا أن الوهابية اخترقتهم الآن بسبب إغراءات أموال البترول, فقد صار أتباع الوهابية داخل الأزهر الآن يصدرون أحكاما علي غيرهم بالتفكير والزندقة والفجور والابتداع, وصاروا يوزعون الجنة والنار علي الخلق من دون الله, ونحن جميعا نعلم أن الكنيسة في أوروبا في القرون الوسطي كانت توزع صكوك الغفران, وهذا حال المسلمين الآن فهم يبيعون صكوك الغفران. * كيف يبيع المسلمون صكوك الغفران؟ ** الشخص الذي يفجر نفسه وسط الأبرياء بحزام ناسف, فعل هذا لأن زبانية الأفكار الدينية المتشددة باعوا له الجنة افتراء علي الله وللأسف من يعدون الناس بالجنة أو يتوعدونهم بالنار هؤلاء بعيدون عن كلام الله, لأن دخول الجنة أو النار لا يتم إلا بعلم الله, وهذا من الغيبيات, مهما كانت أفعالك صالحة لا يضمن لك أحد دخول الجنة, وإن كانت معاصيك أكبر لا يمكن أن أحكم عليك بأنك في النار, ولا يعلم من يدخلها إلا الله. * وماذا عن التعليم الأزهري في ظل هذا المناخ؟ ** هو أيضا مخترق من الفكر الوهابي المتشدد, بدليل أن المناهج تغيرت ورغم ذلك فالأساتذة مازالوا يصدرون فتاوي علي الآخرين بالتكفير والتبديع, وهذا شيء في غاية الخطورة. * هل المناهج الأزهرية تحتاج إلي تعديل؟ ** التعديل الذي تم في المناهج الأزهرية يحتاج إلي تعديل فكري وبرامج ومعايير جديدة تعود إلي التعليم الأزهري الأصيل الذي يخرج داعية يفيد المجتمع, بحيث يفتح آفاق الطلاب نحو قبول الفكر الجديد والاختلاف. ** هل مادة التربية الدينية في المدارس تحتاج إلي تعديل؟ ** أنا أري الأهم هو تعليم الأخلاق, وليس الأديان فقط, لأن الأخلاق تلتقي في الأديان كلها, إذن التربية الدينية يجب أن تركز علي الاخلاق. * هل يعني ذلك أنك مع إلغاء مادة التربية وتدريس مادة الأخلاق؟ ** نعم لأن التفرقة التي تحدث في حصص التربية الدينية تسيء للآخرين وربما يظنون أنهم مميزون, والمواطنة تتطلب أن ندرس شيئا يعم الجميع, وهو الأخلاق. * ألا تري أن ذلك قد يواجه بعنف من البعض؟ ** العنف في انتشار الفكر المتشدد الذي يرسخ لعدم قبول الآخر, وينبغي علينا أن نطهر المجتمع من هؤلاء. * ما رأيك في الفضائيات الدينية؟ ** هذه اساءت للإسلام, لأن الدين لا يوجد انفصال بينه وبين الدنيا حتي نخصص له قنوات معينة, وهذا الانفصال هو الذي أضر بالدين, وعلي الجميع أن يعلم أن الدنيا هي الدين, فقد خلقنا الله في الدنيا لنعبده, ونؤدي العبادات في الدنيا, وهذا الانفصال الذي تدعو له هذه القنوات مقصود, ويبدو لي أنها عميلة لأعداء المجتمع والوطن. * كيف؟ ** أعداء الأمة يريدون أن نظل منشغلين في العبادات عن أمور الدنيا وننبذ الدنيا والتقدم وننشغل بالخلاف في الفتاوي والتفاهات من أمور الدين, وللأسف هذه الفضائيات كرهت الناس في الدنيا من هنا ينبغي أن نصيغ الإعلام الديني لإصلاح المجتمع, وهناك معايير وضوابط يعلمها علماء الإسلام لو اجتمعوا مع أساتذة الإعلام وعلم الاجتماع سيضعون معايير إعلام ديني دنيوي إصلاحي. * هل الخطاب الديني الحالي يدعم مفهوم المواطنة؟ ** لا لأن الذي يدعم المواطنة هو تحابب الناس في بعضهم, لكن الخطاب الحالي يرسخ لرفض الآخر رغم أن القرآن حضنا علي التودد للآخر بقوله تعالي لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين, ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم لذلك فإن مفهوم المواطنة يحتاج إلي أشخاص علي وعي, والحمد لله هناك من أصحاب الدين الإسلامي والمسيحي في مصر من يعملون لصالح الوطن الواحد. * بهذه المناسبة هل تري أن هناك فتنة طائفية في مصر؟ ** باعتبار قريتي بها مسلمون ومسيحيون فأنا أكاد أجزم بأنه لا توجد فتنة طائفية في مصر, وما يحدث من بعض الخلافات نتيجة للتشدد والتطرف هي حالات فردية هنا أو هناك. * لماذا يلجأ البعض إلي دور العبادة عند حدوث مشكلة؟ ** هذا يشير إلي عدم فهم وضحك علي الناس والمسئول عنه رجل الدين الذي يسمح للناس باللجوء إلي المسجد أو الكنيسة عند حدوث مشكلة ويضخمها رغم أنها قد تكون مشكلات عادية مكان حلها القضاء حتي, ولو كانت مشكلات كبيرة لكن هناك رجال دين عقلاء وأذكر واقعة رائعة تظهر روح التواد والتراحم بين أبناء الوطن عندما بني المسلمون مسجدا بالقرب من كنيسة بأبو شوشة التابعة لمركز أبو تشت بقنا فكان هناك تزاور ومباركة من القسيس بالكنيسة الذي قام بصحبة رجاله بزيارة إمام المسجد وباركوا لهم وأنا أذكر منذ كنت صغيرا حتي الآن, وقد نشأت في قرية بها مسيحيون أنادي عم جرجس وعم مقار ونودهم ونزورهم, ومرة سألني أحد الألمان عن الفتنة الطائفية فقلت له أذهب إلي قريتي لن تستطيع أن تعرف الفرق بين المسلم والمسيحي, فالزي واحد والعادات واحدة ويحتفلون بأعياد بعضهم ولا فرق بينهم. * وما الذي حدث بين الجيل الحالي؟ ** من يدعون أنهم رجال دين صاروا ينفخون في التفاهات ويجعلونها مشكلات كبيرة, ولا أعفي أنصار الوهابية في مصر من بث الكراهية وعدم قبول الآخر. * كيف نحمي المجتمع من الأفكار المتشددة؟ ** يجب إبعاد من يبثون هذه الأفكار عن دور العبادة. * هل أنت مع الخطبة الموحدة مثلا؟ ** الخطبة الموحدة مرفوضة لأنها لا تأتي بنتيجة, ولدينا خطباء متعددون لديهم رؤي لعلاج مشكلات المجتمع الأخلاقية ويسعون إلي الإصلاح قدر استطاعتهم أما الخطباء غير المؤهلين, فيجب إبعادهم عن المساجد أو مراجعتهم بالفهم الصحيح للدين بالوسطية والاستنارة. * ماذا عن الإعلام؟ ** يجب أن نطهر الإعلاميين من الاختراق الوهابي الذي سيطر علي بعضهم, وإغلاق القنوات الفضائيات الدينية المتشددة, فهي تسمم الأفكار في البيوت, وتبث فتاوي متشددة تفرق بين الأبناء وأبائهم والزوجات وأزواجهن وتحض علي الكراهية. * كيف يتم ضبط فوضي الفتاوي؟ ** كثير مما تسمعه الآن آراء, وليست فتاوي, والناس لا تفرق بينهما, فالفتوي يجب أن تصدر من مؤسسة إما دار الأفتاء أو لجنة الفتوي بالأزهر, ولو كان الكلام من منطلق ديني فهو رأي وليس فتوي, ومن يصدر آراء وفتاوي بغير علم من أهل الاختصاص يجب منعه وردعه حتي لا يثير الفتنة في المجتمع, وعلي الناس أيضا أخذ العلم من منبعه والفتوي من مكانها الصحيح. * هل الفتوي تتغير بتغير الزمان والمكان؟ ** الفتوي تتغير حسب رؤية المصلح الذي يتكلم عن مصلحة المجتمع وفق واقعه, والدليل علي ذلك الإمام الشافعي عندما جاء إلي مصر غير آراءه, وفتاواه التي لم تكن تصلح لطبيعة المجتمع المصري, وكذلك الحال بين كثير من العلماء فإن فتاواهم تختلف بحسب واقع وظروف بلادهم, والآراء المعاصرة تختلف عن آراء العصر القديم, وما يتواكب مع آليات العصر. * ما ضرر الفتاوي المتشددة علي مسيرة إصلاح الفكر الديني؟ ** الفتوي المتشددة لا صلة لها بالإسلام, لأن الرسول قال يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا واستنادا إلي سنة الرسول يجب أن نأخذ بأيسر الأمور, والنبي قال أيضا من يسر علي معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. * ما دور الوسطية في إصلاح الفكر الديني؟ ** الوسطية في الإسلام أن نأخذ بالتيسير فهو عين الوسطية, لذلك فإن الإسلام دين وسط لا تفريط فيه أو إفراط, فالتشدد إفراط مرفوض مثل رفضنا الإباحية وهي تفريط. * كيف ننشر الوسطية الدينية؟ ** يقوم بنشرها علماء الدين الإسلامي والمسيحي المستنيرون, وهم كثيرون داخل الجامعات والمنتديات العلمية لكن للأسف الإعلام بعيد عنهم, ومن هنا يجب علي الإعلام وضع منهاج لنشر الوسطية الدينية, وللأسف القنوات الفضائية المتشددة تبحث عن أنصارها وترفض الوسطيين.