الشجاعة وبطولات زائفة في أعقاب الثورات والانقلابات ووسط الاهتزازات التي تأتي بها, تنطلق التصريحات والإشاعات والقصص والأقاويل.. وهذا رد فعل طبيعي يأتي بعد فترة من الكبت أو الخضوع والخوف من قول الحق. لكن الظروف غير العادية التي تعيشها الشعوب خاصة التي لم تتعود الحرية تجعل هذه الظاهرة تمارس بكثير من المبالغة وأحيانا لا تتصف بالصدق أو الدقة فتظهر قصص الشجاعة والبطولات الزائفة.. التي تنقص من المصداقية ونقاء النوايا. ابتداء نري أنه عندما يكون قول الحق يتطلب الشجاعة فإن هذا دليل عليأن هناك خللا ما, فالحقيقة لابد أن تنساب من العقول, ويتم التعبير عنها ببساطة وتلقائية وثقة, بغض النظر عن العواقب, ونحن اليوم نري زمرة من الشجعان الذين يتحدثون ويذيعون أسرارا وأحداثا سكتوا عنها والآن فقط يتحدثون- وبعضهم بشيء من المبالغة- إدعاء للبطولة وتمجيد الذات.. أين كان هؤلاء؟ إن الشجاعة هي ليست اختيار وقت قول الحق, إنها مطلوبة علي الأخص أثناء الأزمات وليس بعدها. الشجاعة ليست في السكوت عن مؤامرة قتل ثم إذاعة أسرارها الآن ذلك تقصير يجعل من سكت عنها في وقتها شريك مما يعرضه للمساءلة والتحقيق وكيف يصبح بطلا من ارتكب جريمة قتل رئيس أسبق؟ هل هؤلاء هم الأبطال الذين نقدمهم قدوة للشباب, وهناك من كان أحد أركان النظام الناصري وسكت عن كل ماكان يرتكبه البوليس السياسي وأمن الدولة من جرائم وحشية شملت القتل والاغتيال والاغتصاب وغيره.. والآن يريد أن يصبح بطلا يخاطب ويرشد شباب التحرير الذين سقط بعض زملائهم علي يد الجهاز الذي ترعرع في عهده!! إن الشجاعة الحقة هي موقف أحد قيادات الشرطة الذي رفض إطلاق كلاب الشرطة علي المتظاهرين في تحد واضح لأوامر واحد من أقوي وزراء الداخلية, إنها في ذلك الذي توقع أحداث الأمن المركزي وحذر منها وسجلها بشجاعة في شريط للمسئولين لم يهتموا بالاستماع إليه إلا بعد الكارثة ووقوع الأحداث والخسائر. الشجاعة هي مواقف وزراء الخارجية الذين لم يوافقوا علي ثغرات اتفاقية كامب ديفيد وفي النواب الذين صرحوا برأيهم في الصلح المنفرد مع إسرائيل مع ما تعرضوا له بسبب ذلك, الشجاعة في قرار من تخلوا في الأيام القليلة الماضية عن مناصب وزارية أو حزبية لأنهم لم يجدوا في ضمائرهم القدرة علي مسايرة الاتجاهات التي كانت سائدة عندئذ.. الشجاعة صفة من يحذرون اليوم والآن من مخاطر المرحلة الحالية واحتمال اختطاف حركة شبابية بريئة ويرفضون ركوب الموجة.. نحمد الله أن هؤلاء مازالوا موجودين, وعلينا أن نتيح لهم فرصة التعبير عن الرأي, أما المبالغة في الاتهام والاستبعاد وإدعاء البطولات الزائفة فإنه غبار يلوث نقاء الرغبة في الإصلاح. إن الذين يتكلمون الآن في بطولة بعد أن صمتوا طويلا في خوف لا يستحقون صفة الشجاعة.. إن هدف الكثير منهم التقرب إلي أصحاب النفوذ حاليا والسباحة مع التيار الأقوي وصولا لشواطئ متباينة الشكل والاتجاه. مسألة الأجندات الخاصة لما كان الاختلاف في الاتجاهات والآراء والمعتقدات سنة الحياة, فإن هذا يعني أن كل أمر وكل حديث قد يختلف الناس حوله, من هنا فإنه ليس مستغربا أن توجد في كل ثورة أو محاولة تغيير مجموعات تريد انتهاج مسيرة مختلفة أو لا تريد ذلك التغيير..هؤلاء وإن اختلفنا معهم, لهم حق التعبير عن رأيهم إنما في إطار القانون ودون إلحاق خسائر بالمجتمع, هذه الظاهرة يطبق عليها- مجازا- اختطاف الثورة أو الثورة المضادة أو الثورة ضد الثورة وهي ظاهرة وجدت مع أغلب الثورات ولا يجوز القلق منها أو إنكارها. من السذاجة أن نظن أن جميع المتظاهرين في التحرير, وغيره, لا يوجد بينهم من لهم أجندات خاصة شخصية أو سياسية إن أصحاب أي فكر معين يسيطر علي عقولهم لابد وأن ينتهزوا كل فرصة, وأي فرصة, لتحقيق أهدافهم التي يتمسكون بها لأنهم يشعرون بأن عليهم التمسك بما يعتقدون وإلا كان ذلك نوعا من عدم الولاء لأهدافهم! من هنا فإنه من الطبيعي أن يقتحم كل صاحب أجندة جماهير المتظاهرين لاستثمار الموقف لصالحه, هذه الأجندات بعضها داخلي وبعضها خارجي ولا تضح معالمهم إلا بعد فترة من الهدوء النسبي, وقد أصبح واضحا اليوم أن المنظمات الدينية أصبح لها مكانة خاصة ومساحة من السيطرة علي الموقف, كان وجودهم في البداية متخفيا في ثنايا الموقف ثم ظهر ليصرح قادته أن الثورة أعطته الشرعية المطلوبة. هذه ليست دعوة لعدم استبعاد أي فكر فإن أراد البعض دولة دينية وفكرا سلفيا.. لهم ما يرون إنها دعوة لعدم استبعاد فكر غيرهم ممن يدعون لدولة مدنية واتهامهم بالكفر أو عدم التدين, فالدولة الدينية ليست مرادفا لشعب متدين يلتزم بمبادئ الأديان, والدولة المدنية ليست نقيضا للتدين بل تدعو إليه. تعاون الأجيال كثيرا ما يري جيل الآباء أن علي الأبناء الانصياع لما يقولون للحد من طيش الشباب وفي المقابل فإن الأبناء عادة يتصورون أنهم احتكروا الصواب وأن الآباء دقة قديمة فاتهم الزمن وأنهم جيل لا يعيش الحاضر ولا يدرك أبعاده ولا يتطور مع المعتقدات, كلاهما معه نصف الحق لا يحتكر أيهما الحقيقة, والصواب نقطة الاتزان مابين الحكمة والحيوية, بين الخبرة والتجديد ومنهما معا يكون الاتزان والقرار الرشيد. إن تواصل الأجيال أقصر وأفضل الطرق للوصول إلي أفضل الحلول, وكلا الجيلين لابد أن يدرك ذلك فلا يتصور الآباء أنهم يحتكرون القرار السديد ولا يتصور الأبناء أنهم يحتكرون الصواب ويسعون للانفراد بالرأي أو يتصورون أن أصبح لهم وحدهم اتخاذ القرارات وفرض الرأي حتي في اختيار الوزراء والمسئولين. إن كان علينا أن نستمع لأبنائنا اعترافا بحقهم في المشاركة وقدرتهم علي ممارستها, فإن عليهم أيضا الاستماع لنا احتراما للتجارب والاستفادة من الخبرة. المزيد من مقالات د. ليلي تكلا