من المسموح له بالكتابة وإبداء الرأي في الشأن العام المصري وفي الظواهر والمشاكل والأزمات والوقائع الكونية والإقليمية المؤثرة علي تفاصيل حياتنا في عالم الغرفة الكونية أو الأجهزة المحمولة متعددة الوسائط؟ هل الساحة الصحفية القومية والأحري وصفها بالسلطوية مفتوحة أمام جميع الصحفيين والكتاب والخبراء كي يشاركوا بإبداء آرائهم فيما يدور حولهم ويؤثر علي مسارات حياتهم اليومية بل وعلي مصائرهم الجماعية أو الفردية؟ هل هناك معايير موضوعية لاختيار من الذي يكتب ولماذا؟ هل الحرية تعني أن كل ما له علاقة بالصحافة يصلح للكتابة المنتظمة وإبداء الآراء في قضايا الحوار العام في بلادنا؟ ان غياب الحرية والقيود المفروضة عليها هي مفتاح رئيس في الإجابة عن الأسئلة السابقة, ومن ثم يقال ان المسموح لهم بالكتابة هم المؤيدون للسلطة الحاكمة أو العناصر المؤثرة فيها والقادرة علي فرض هذا الكاتب أو ذاك, واستبعاد بعض الكتاب لأنهم يحملون رؤي نقدية أو راديكالية ويحاولون إشاعتها بين القراء! مقولة السلطوية ودلالاتها قد تكون مدخلا عاما لفهم من الذي يتم اختيارهم للكتابة ومن يتم استبعادهم أو إقصاؤهم عن التداخل في الجدل العام وقضاياه الرئيسة, ويكون الحضور في المشهد الكتابي رهين الموافقة أو الموالاة لخطاب السلطة السياسية الحاكمة ومصالحها علي اختلافها؟ ثمة ترابط عضوي بين السلطة ومصالحها وكتابة الرأي في الصحف لاسيما في النظم الشمولية والتسلطية حيث لا يسمح لأي أحد بأن يدخل إلي دائرة الخطاب العام بوصفه منظومة من المقولات والبنيات والاصطلاحات والمرجعيات, بل لابد أن يكون رأي الكاتب في عمومياته وأعماقه تعبيرا عن السلطة وموضعا للتراضي العام السلطوي القسري أو الناعم بوصفه الإنتاج الثقافي والإيديولوجي الأكثر تعبيرا عن السلطات المهيمنة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية في لحظة تاريخية ما. من هنا يلعب حراس البوابات الإيديولوجية والدينية دورا بارزا في تحديد قائمة من هم مع النظام ورؤوسه الكبري ومؤسساته الأمنية, ومن هم المتمردون والمشكوك في ولائهم, أو آراءهم من الصحفيين والكتاب. في المراحل المختلفة لنظام يوليو كان هناك كتاب كبار مستمرون لأنهم يمثلون حراس المعبد وكهنته الذين يتولون توعية الجماهير والقراء. في المرحلة الناصرية كان كبار الكتاب أيا كانت توجهاتهم من أبناء المرحلة الليبرالية وأبوابها المفتوحة وحرياتها الفكرية والأكاديمية والسياسية والدينية, من هنا لم تستطع السلطة اقتلاع غالب جذور ورموز الفكر السياسي والاجتماعي الليبرالي, واليساري والقومي, والإسلامي, ومن ثم ظلت هذه الاتجاهات ورموزها حاضرة داخل الجامعات وفي الصحف رغما عن القيود المفروضة علي حريات الرأي, ولم تستطع الصحف الكبري حجب آراء كبار الصحفيين والكتاب إلا قليلا, ولفترات قد تطول أو تقصر. في المرحلة الساداتية كان الاستبعاد منطق النظام والسلطات الأمنية لأنها كانت تراقب وتوجه وتمنع, وكان السادات يعرف بعض كبار الكتاب, ومن هنا ظل هو الذي يختار أو يوجه لاختيار بعضهم كرؤساء للتحرير, أو ككتاب منتظمين في هذه الصحيفة أو تلك, أو استبعاد بعضهم من الكتابة أصلا؟ في عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك, كانت التقارير الأمنية والوشايات أمرا من الأهمية بمكان في اختيار القيادات الصحفية, وفي تجاوز انحرافات بعضها المالية, أو عدم كفاءة وقدرة بعضها إلي الحد الذي أصبحت فيه الكفاءة والمهنية في عهده أمرا مرذولا وكريها, ويدعو إلي الاشفاق علي غالب ذوي القدرة والموهبة بل والازدراء بهم في بعض الأحيان من قياداتهم التي تستبعدهم عن عمد لاعتبارات سوسيو نفسية. لم يكن معيار التجنيد للمواقع القيادية بالصحف القومية في المرحلة الممتدة لأكثر من ثلاثين عاما مضت هو الولاء للسلطة وللرئيس وعائلته فقط, وإنما أيضا المعيار الأمني أو بعض الولاءات الشخصية لبعض مراكز القوة والثقل داخل النظام ثم الولاء الشخصي لرؤساء التحرير. لم يكن جميع الزملاء سواء من حيث انعدام الكفاءة بل ثمة استثناءات لا تخطئها العين عن كفاءات وظفت قدراتها في دعم النظام ورئيسه وعائلته ومن الطبيعي أن يدفع بعض هؤلاء الثمن السياسي لهذا الخيار. هذا النمط من التجنيد والخيارات التي تربط المكانة القيادية بالولاء لبعض رموز النظام والأمن أتاح لغالب هؤلاء الزملاء اختيار عناصر أقل من الحد الأدني من حيث التكوين والمهنية والكفاءة كي يسهل تطويعهم وقيادهم في جيش المدافعين عن الرئيس والعائلة والنظام ورموزه, والأخطر الدفاع عن قياداتهم الصحفية علي اختلاف مستوياتها. في ظل هذه البيئة السلطوية, تحولت الكتابة إلي حكر علي بعض الصحفيين دون غيرهم, ونظرا لأننا لسنا إزاء معايير يتم في ضوئها اختيار كتاب الرأي من داخل الصحف أو من خارجها, ضعفت مستويات كتابة الرأي واعتمدت علي معايير ذاتية لرئيس التحرير أو بعض ذوي النفوذ والكلمة المسموعة حوله, إن شاء خصص اقطاعيات كتابية ومساحات منتظمة لبعض خاصته, أو أصدقائه, أو بعض من أصحاب النفوذ خارج المؤسسة الصحفية, أو عناصر لا خبرة ولا وزن لها في تخصصاتها لإبداء الرأي المنتظم, أو لبعض كبار رجال السلطة ولاسيما في المجالات الاقتصادية أو الدينية الذين يعتبرون الكتابة جزءا من الوجاهة والمكانة في الحياة العامة بقطع النظر عن قيمة ما ينشرونه بل وخطورة بعض ما يقدمه هؤلاء من آراء تفتقر إلي عمق المعرفة أو المتابعة الدقيقة, أو المعلومات الموثقة أو التحليل الموضوعي الرصين. من هنا كان معيار القرب أو البعد من غالب القيادات الصحفية هو المعيار الأول في الدخول إلي دائرة الكتاب والكتابة, وكأنها منح تعطي أو هبات توزع علي خاصتهم من الموالين لهم, أو ممن يرتبطون معهم بمصالح خاصة. بعد الانتفاضة الثورية لابد من تغيير في العلاقة بين الكتابة والسلطة في السياسة والصحافة ورجال الأعمال! لم يعد مقبولا ترك تيار عارم من الكتابة السطحية تسيطر علي مقالات وأعمدة الرأي في الصحف القومية, بدعوي أن الجميع يريد أن يبدي رأيه في الشأن العام, خاصة بعد أن أصبح بعضهم أو غالبهم ثوارا وقادة ونشطاء سياسيين, وهو خلط بين الكتابة السياسية كإنتاج إبداعي وعلمي وبين الانطباعات, وهتافات الشعارات العامة علي نحو ما يكتبه بعضهم الآن! ان ظاهرة الجهلاء الجدد التي كتبنا عنها في النصف الثاني من عقد التسعينيات أصبح رموزها الآن من طلائع الفكر الثوري الجديد وموجهيه!!, وكان يلاحظ أن ثمة شبكات تربط بينهم في المصالح والعلاقات الوظيفية, ومن يدير بعضهم في مراكز الثقل داخل النظام التسلطي. لم تعد كتابة غالب هؤلاء ذات وزن أو تأثير مع كل تصدع في تركيبة وهياكل النظام التسلطي ورموزه, ولكن الأخطر.. الأخطر بروز بعض التواطؤ مع بعض الذين يتصورون أن كتابة الرأي لا ممارسة الفنون الصحفية الرفيعة هي مدخلهم للترقي لأعلي, أو للظهور الإعلامي, وأن كتابة الرأي المنتظم هو ثمن الموالاة والكف عن التظاهر ضد قياداتهم في ظل مرحلة سيولة وعدم يقين وتضاغط, وتختلط فيها التفاهة بالكفاءة والبلادة بالموهبة والمديوكر ما دون المتوسط والمنيوكر ما دون الحد الأدني , وهكذا ستستمر الأمور وتظلم الكفاءات والمواهب داخل بعض أبناء الجيلين الوسيط والجديد إلا من خلال وقفة مهنية حاسمة مع دعاة التفاهة, وذلك لأن بعض شباب المهنة يمثلون الأمل الحقيقي لصحافة تقود الطريق مع الانتفاضة الثورية إلي مصر الجديدة. أقول للزملاء والأصدقاء القيادات الصحفية الجديدة افتحوا الأبواب أمام المواهب والكفاءات وتصدوا لصانعي الرداءة والقبح والجهالة في بلادنا. المزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح