تثير مسألة القاضي والكتابة عديد القضايا والإشكاليات حول الحرية في التعبير, والبحث الأكاديمي في المجال القانوني, وهل يمتلك القاضي الحرية الكاملة في هذا الصدد؟ هل للقاضي الحق في إبداء رأيه في بعض القضايا العامة المطروحة للجدل أو السجال العام في المجتمع المصري, أو علي مستوي الحوار الإقليمي أو الكوني؟ عديد الأسئلة التي أثيرت في السنوات الأخيرة بصدد قيام بعض شيوخ القضاة أو شبابهم بإبداء الرأي في مقالات أو تحقيقات صحفية, وبعض ما طرحوه شكل في نظر بعض السياسيين الرسميين أو الحزبيين اشتغال القضاة بالعمل السياسي المباشر, ومن ثم يرتبون علي ذلك نتيجة مفادها ضرورة ألا يبدي القضاة آراء لهم في الشأن العام؟ من هنا نستعيد السؤال الرئيس هل للقاضي الحق في الكتابة وحرية الإبداع في مجال السرديات والأجناس الأدبية الشعر والرواية والقصة, أو في فنون التصوير والنحت والأعمال المركبة! أسئلة بعضها موشوم بالهوي لأنها ارتبطت بممارسة بعض القضاة لوظيفة الإشراف علي الانتخابات الماضية بصرامة وحيدة وعبروا عن آرائهم بحرية عن تجاوزات تمت, ومن ثم حاول الاتجاه السلطوي الرافض للدور الإشرافي الجاد للقضاة علي الانتخابات استبعاد دورهم في هذا المجال! القاضي يمتلك حرية واسعة علي مستويين أولهما أثناء ممارسته للوظيفة القضائية, وأثناء ممارسته للكتابة أو التعليق في الشأن العام, وليس في القضايا التي تعرض عليه ويمتنع عليه إبداء الرأي فيها مسبقا أو أثناء نظرها. ويتنحي القاضي إذا كان قد سبق له إبداء الرأي في قضية من القضايا العامة, وعرض عليه نزاع بشأنها, ترتيبا علي ذلك يمكن القول إن القاضي يمتلك حرية واسعة في تفسير وتأويل النصوص القانونية, وفي تطبيقها علي الواقعات المشكلة للنزاعات القانونية, سواء في تكييفها, وأعمال القواعد القانونية المنظمة للمراكز القانونية المتنازعة. حرية القاضي هنا تدور في إطار المنظومات القانونية التي تحكم ممارسة لعمله, وفي إطار الصلاحيات التي يمنحها له قانون السلطة القضائية, وقانون المرافعات والإجراءات الجنائية.. إلخ, بالإضافة إلي القوانين الحاكمة للنزاع المعروض عليه. السؤال هل للقاضي حق الكتابة في أمور وشئون وقضايا أخري؟ وظيفة القاضي وحيدته ونزاهته واستقلاله لا تعني اختصار واختزال حياته وأفكاره ومواهبه في إطار مهنته في الفصل في المنازعات التي تعرض عليه, تلك نظرة خاطئة ولكنها شائعة في بعض دوائر السياسة والإعلام, وبين بعض المثقفين, وآحاد الناس. القاضي مواطن له كافة الحقوق وعليه واجبات شأن أي مواطن أيا كانت وظيفته أو عمله أو مكانته, صحيح أن الوظيفة قد تفرض بعضا من الضوابط المعنوية أو الأخلاقية, وسمت سلوكي, إلا أن مراعاتها لا يعني قط حرمانه من حقوقه وعلي رأسها حرية الرأي والتعبير والنشر, بل وإبداء رأيه في بعض القضايا العامة التي تهم الأمة وشئونها, أو في تحليل ودرس بعض جوانب العطب التشريعي عند عرض بعض القضايا, والتي قد تنطوي عملية تطبيق القانون عن ظهور بعض الثغرات التي تحتاج إلي تدخل تشريعي. من هنا نجد عديد الأحكام يشير فيها بعض القضاة البارزين إلي ضرورة إجراء تعديل تشريعي لمعالجة ما كشف عنه الواقع من ثغرات في القانون, أو في بعض السياسات الاجتماعية أو اللوائح والقرارات الإدارية التي تنطوي علي تناقضات أو تمس حقوق دستورية أو قانونية للمواطنين. نود أن نؤكد وبوضوح أن ثمة تمايزات بين القاضي أثناء أداء وظيفته القضائية أي الفصل في المنازعات القانونية المعروضة عليه-, وبين حقه كمواطن في إبداء رأيه, أو في ممارسة الكتابة كعملية إبداعية أو فكرية. رأي القاضي في بعض الشئون العامة, يختلف كثيرا أو نوعيا عن الفصل في الخصومات القضائية, حيث ينهض القاضي في هذه الحالة بوظيفته, ولا يعد ناكلا للعدالة, في حين أن القاضي حر في أن يبدي رأيه كما يشاء في موضوعية بوصفه مواطنا, لأن الوظيفة القضائية قد تضفي قدرا من الوقار والرصانة علي القاضي, لكنها لا تسلبه حقه وحريته في التعبير عن آراءه. السؤال هنا هل عضوية البرلمان تسلب العضو حريته في إبداء آراءه علي اختلافها داخل وخارج البرلمان؟ بالقطع لا. الوزير ورئيس الوزراء يبدون آراءهم, وأحيانا اعتراضاتهم علي كثير من الأمور والتوجهات تقوم بها السلطة التنفيذية. هنا لا نستطيع الفصل بين الوظيفة النيابية والسياسية, وبين حقوق المواطنة للقاضي والنائب ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير والموظف العام؟ الجميع مواطنين ويحكمهم قواعد دستورية وقانونية تطبق علي الجميع. من هنا لا نستطيع سلب القاضي حقه في إبداء آراءه في بعض القضايا العامة أو غالبها, أو كلها بدعوي أنه يفصل في منازعات وخصومات قضائية. الأمر المنهي عنه هو أن يصدر أراء تتصل بقضايا معروضة عليه للفصل فيها, أو أن ينخرط ضمن جماعة سياسية, أو حزب سياسي أو جماعة دينية أو جماعة عرقية مسيسة, ضمن ظواهر العرقيات المسيسة( نوبي/ سيناوي... إلخ), أو المذهبيات الدينية المسيسة( سنة/ شيعة), أو علي أساس مناطقي, بحيث يؤثر ذلك علي أدائه الوظيفي في المجال الفصل في النزاعات القانونية والدعاوي الحاصلة لها. بعض القضاة قد تكون أداة التعبير عنه, العمل الإبداعي والسردي شاعر وروائي ومسرحي وقصاص أو رسام, أو نحات أو مصور فوتوغرافي... إلخ- أن يكون الروائي أو الشاعر, أو المسرحي, أو المؤرخ, أو المفكر قاضيا, لا تعني ممارسته الإبداعية, أو البحثية أنه يخل بمهام وظيفته. وإنما يضفي هذا العمل خارج نطاق الوظيفة القضائية وقارا علي وقار, وهيبة علي هيبته. وشهد تاريخنا قضاة بارزين من مثيل أحمد راسم الشاعر الكبير, وطارق البشري المؤرخ الرصين, ومحمود دياب المسرحي المبدع...إلخ. مثال ذلك عديد المؤلفات في شرح بعض القوانين لبعض القضاة, وهذا شكل آخر من أشكال التعبير, ولكن في شكل بحوث ومقالات وتعليقات قانونية فنية. وهذا الدور الفقهي والبحثي أثري ولا يزال الحياة القانونية والتشريعية في بلادنا. القضية ليست في مجال الدور الإبداعي لبعض القضاة الموهوبين والمبدعين, وإنما في تدهور مستويات بعض العاملين في هذا المجال في تخصصهم الرئيس, كنتاج لتدهور التعليم القانوني والحقوقي وتأثر بعضهم بخلفياته الاجتماعية والإيديولوجية والدينية وتأثيرها علي ممارستهم لأعمالهم, علي نحو ما بات يشكل موضوعا للخطاب الاجتماعي النقدي الذي يتابع القضايا المجتمعية بالبحث والتحليل. المشكل الآن يتمثل في غلبة روئ ماضوية علي بعضهم أثناء إبداء وجهة نظرهم وآراءهم في القضايا العامة. لا ينبغي إعطاء بعض القضايا أكثر مما تستحق المنهي عنه كما ذكرنا سابقا هو أن يتحول القاضي إلي ناشط وداعية إيديولوجي وديني, بحيث يؤثر علي صورة وهيبة مؤسسة ومهنة رفيعة كانت ولا تزال موضع احترام الأمة. ثمة شكل ثالث من أشكال إبداء الرأي, ألا وهو الدور الاستشاري لبعض القضاة أثناء ندبهم لإحدي الوزارات, أو الهيئات العامة في أمورها القانونية ونزاعاتها, وعقودها القانونية. هذا شكل آخر, وأن اتخذ الطابع الفني. هذا المستوي وتمثيلاته في التعبير عن الرأي وأشكاله لا معقب عليه, ويمثل أحد حقوق القضاة كمواطنين. في مصر قضاة رغما عن كل شئ يجري فيما وراء الخلل في الهياكل والروئ والذمم والضمائر, ورغما عن غموض المصائر.