ازدواجية المعايير.. جريمة تلاحق العدالة الدولية نتيجة خضوع تلك العدالة للحسابات والمصالح السياسية. فيما شهد العالم تصميما وإصدارا من الدول العربية علي محاكمة رؤساء وحكومات ووزراء ومسئولين يشهد العالم في نفس الوقت تجاهلا وتواطئا ودفنا لأدلة ولوائح اتهام آخرين. بخلاف مذكرات الملاحقة الدولية التي تصدرها حكومات وتبلغ بها البوليس الدولي( الإنتربول) ضد لصوص أو مجرمين بتهمة سرقة أموال أو ارتكاب جرائم قتل عرفت السياسية الدولية مذكرات ملاحقة تصدرها حكومات ومحاكم دولية وأحيانا مجلس الأمن ضد رؤساء دول في الخدمة أو سابقين ورؤساء حكومات وكبار المسئولين بسبب انتهاكات لحقوق الانسان في دولهم أو دول جوار وارتكاب جرائم ضد الانسانية كالتطهير العرقي والإبادة الجماعية. الكثيرون من هؤلاء لا يخضعون للاستجواب ولا حتي الإدلاء بالشهادة أمام جهات التحقيق المعنية لأسباب عدة, منها توافر حماية لهم من جانب نظام الحكم اللاحق لأنظمتهم أو من جانب قوي عظمي حتي لا تتحول محاكمة هذا أو ذاك الي محاكمة لهما لتورطهما في الجرائم التي ارتكبها المطلوب لاسيما إذا هدد الاخير بكشف المستور. والبعض من هؤلاء يقوده حظه السيئ الي الاعتقال والمحاكمة بسبب غياب هذه الحماية أو رغبة القوي العظمي في التخلص منهم حتي لا يتحولوا عبئا علي هذه القوي والبعض الثالث يموت ويتم اغلاق الملفات. وتعد محاكمة النازيين بعد ملاحقتهم في شتي أنحاء العالم في محاكمات نورمبرج هي الحالة الوحيدة التي اتفق العالم علي ضرورتها وعدالتها بسبب ما ارتكبوه من جرائم في الحرب العالمية الثانية. المجرمون الإسرائيليون: تشكل إسرائيل حالة خاصة في هذا المجال فبرغم اعتماد تأسيسها علي الارهاب علي يد العصابات الصهيونية منذ العشرينيات وحتي قيام الدولة عام 1948 إلا انها جعلت للارهاب وسطية لتحقيق السلام لاقامة دولة اغتصابا علي ارض فلسطين قادتها التاريخيين مذابح في مختلف مدن وقري فلسطين, وتورط هؤلاء القادة في أعمال إرهاب واغتيال مسئولين دوليين وبريطانيين فان أيا منهم لم يلاحق دوليا برغم أن بعضهم صدرت بحقه مذكرات اعتقال بوصفه مطلوبا بل إن عددا منهم وصل الي مقعد رئيس وزراء إسرائيل بعدما ترأس ونفذ عمليات ارهاب في اطار عضويته في منظمات الهاجانة والارجون زفاري ليومي وشتيرن وعلي رأس هؤلاء أول رئيس حكومة ديفيد بن جوريون وخللفاؤه موسي شاريت وليفي أشكول وجولدا مائير ومناحم يبجين واسحق شامير وإيهود باراك وإرييل شارون وهؤلاء لم يقتلوا عربا وفلسطينيين فقط بل موظفين دوليين ومسئولين بريطانيين بل وأمريكيين. فقد قتلت العصابات اليهودية السويدي فولك برنادوت الوسيط الدولي الذي كلفته الأممالمتحدة مهمة بحث تنفيذ القرار 181 لسنة 1947 م بتقسيم فلسطين الدي دولة عربية ودولة يهودية بعد وصوله الي القدس, وقبل ذلك اغتالت عصابة الارجون اللورد موين في القاهرة واتهمت بريطانيا شامير وأصدرت مذكرة اعتقال ضده.. ونسفت العصابات فندق الملك داود بالقدس عام 1948 م وقتل في التفجير بريطانيون وضربت اسرائيل عام 1954 م المصالح الأمريكية في مصر في اطار خطة وضعها وزير الدفاع بنحاس لافون في حكومة شاريت فيما عرف باسم فضيحة لافون. لكن أيا من هؤلاء لم يقبض عليه أو ينل العقاب في الجرائم الدولية التي ارتكبها, بل إن حكومة بريطانيا علي سبيل المثال تعاملت مع بن جوريون وشامير وبيجين قتلة البريطانيين كما تعاملت الادارة الأمريكية برئاسة ليندون جونسون مع أشكول ووزير دفاعه موشيه ديان واستقبلته في واشنطن برغم ضربهما السفينة الحربية الأمريكية ليبرتي في المتوسط عام 1967 واغراقها وسقوط عشرات الضباط والجنود الأمريكيين بين قتلي وجرحي. لكن المجرم الأشهر في تاريخ إسرائيل هو شارون مخطط ومنفذ جريمة الابادة الجماعية ضد المدنيين الأبرياء في مخيم صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت في سبتمبر 1982 م وبرغم فظاعة الجريمة وثبوت تورط شارون فيها فإن محاولة استدعاء القضاء البلجيكي له عام 2001 م باءت بالفشل ضغوط مارستها إسرائيل ضد بلجيكا التي اضطرت الي سحب القضاء طلب استدعائه فقد كان 23 شخصا من أسر ضحايا مذبحة صبرا وشاتيلا قد طالبوا من القضاء البلجيكي استنادا الي القانون البلجيكي الذي يسمح بالقصاص من الاجانب الذين يرتكبون جرائم ضد الانسانية في أي مكان في العالم أما ايهود باراك فلم يجد من يطلبه وهو قد شارك في تنفيذ عمليتي اغتيال قادة فلسطينيين في بيروت عام 1983 وأبوجهاد في تونس عام 1988 فبلجيكا هي الدولة الوحيدة في العالم التي يسمح قانونها باقامة محاكمة دولية ضد أجانب لذا أصبحت مركزا مهما لهذا النوع من القضايا مما سمح لمحاكمها بمحاكمة اربعة مسئولين روانديين سابقين بتهمة التورط في مذابح الابادة الجماعية التي شهدتها رواندا عام 1994 م. ووفقا لنفس القانون أصدرت محكمة بروكسل في يوليو عام 2000 م مذكرة ملاحظة دولية لاعتقال وزير خارجية الكونغو عبدالله بيروديا بسب اطلاقه تصريحات عنصرية ضد قبائل التوتسي, وألقت السلطات السنغالية في نوفمبر 2005 القبض علي الرئيس التشادي السابق حسين هبري, كونه مطلوبا أيضا في بلجيكا بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية. رؤساء بين المحكمة.. والنجاة.. أو الموت: تراوح مستقبل الحكام الديكتاتوريين بعد تركهم السلطة بين الوقوع في براثن المحاكمة الدولية أو الوطنية أو النجاة منها أو الموت قبل الخضوع لمحاكمات محتملة أو مرغوبة. فالزعيم الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش يخضع لمحاكمة دولية تشكلت بقرار من مجلس الأمن عام 1999 م وسلمته حكومته التي خلفته في السلطة الي المحكمة بسبب جرائم التطهير العرقي التي قادها ضد مسلمي البوسنة والكروات وألبان كوسوفا في الفترة من 1992 وحتي 1998 م والتي راح ضحيتها عشرات الألوف من البشر. والرئيس الشيلي الأسبق بينوشيه نجح في الفرار من محاكمة محتملة علي جرائمه خلال فترة حكمه, فقد وجه القضاء في بلاده اتهامات له عام 1999 م بالتستر والتورط في عمليات التخلص من المعارضين السياسيين وخلال وجوده في بريطانيا أصدرت السلطات الاسبانية القضائية مذكرة ملاحقة له إلا أن القضاء البريطاني سمح له بمغادرة أراضيها الي بلاده ونجا بينوشيه آنذاك بسبب دفع محاميه بمعاناته من خرف الشيخوخة كسب للاعفاء من المساءلة, لكن محكمة سنتياجو أقرت في ديسمبر 2004 م بأن حالة بينوسيه الصحية لا تمنعه من المثول للمحاكم. أما الرؤساء سوهارتو في اندونسيا وماركوس في الفلبين وموبتو في الكونغو الديمقراطية( زائر سابقا) وشاه ايران الراحل محمد رضا بهلوي فقد نجوا من الملاحقة والمحاكمة بسبب الوفاة. حالات عربية: لم ينقذ الموت الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بعد احتلال بغداد في ابرايل 2003 م من الاعتقال قبل نهاية العام وتقديمه الي محكمة عراقية تشكلت في ظل الاحتلال ولم تكن بعيدة عن الجواء وكانت الجرائم التي ارتكبها ضد الشعب العراقي خلال فترة حكمه 1978 م 2003 م حيثيات صدور القرار باعدامه لكن الرئيس السوداني الاسبق جعفر نميري سعت حكومة الصادق المهدي عام 1986 م بعد عامين من خلعه اثر اضطرابات شعبية الي استلامه من مصر لمحاكمته عن انتهاكات حقوق الانسان فترة حكمه( 1969 م 1984) واقامت حكومة المهدي دعوي قضائية امام القضاء المصري لهذا الغرض حيث كان نميري وقت الاحداث في زيارة القاهرة في طريق عودته الي بلاده من واشنطن لكن مصر اعتبرت منحه حق اللجود قرارا سياديا لا يخضع لاحكام القضاء. وعلي نفس المنوال لم تنجح محاولة السيدة نعمات مالك زوجة المناضل السوداني عبدالخالق المحجوب لاستصدار قرار من القضاء الأمريكي بملاحقته في الدعوي التي أقامتها لهذا الغرض في مايو عام.2001 وتحول أحمد الجلبي مدير بنك البتراء الأردني السابق الذي اتهمته الاردن باختلاس 300 مليون دولار والتسبب في افلاس البنك وفر من عمان قبل صدور حكم القضاء الاردني عليه عام 1992 م بالسجن 22 عاما تحول من لص الي سياسي وقضيته من جريمة جنائية الي قضية سياسية وذلك بعد الاحتلال الأمريكي للعراق إذ فوجئت الأوساط العربية عامة والاردنية خاصة بعودته وسط حراس أمريكيين الي بغداد واختيار رئيس ادارة الاحتلال للعراق بول بريمر له عضوا في مجلس الحكم! وتصر الأردن علي تسليمه لتنفيذ الحكم برغم الحماية الأمريكية التي تتوافر له ورفض واشنطن تسليمه حتي بعد ما اتهمته في ابريل 2004 بالتجسس لصالح إيران. أشهر مطلوب أمريكي: يعد وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر(1972 م 1976 م) أكبر رأس أمريكي مطلوب في الخارج بسبب علاقته الوثيقة بانقلاب الدموي في شيلي عام1973 م الذي اطاح بالرئيس سلفادور الليندي المنتخب ديمقراطيا علي يد الديكتاتور اوجستو بينوشيه والذي شهدت فترة حكمه(1973 م 1990 م) مصرع عشرات الآلاف من ابناء شعبه وبعض الاجانب بسبب ممارسته القمعية ضد المعارضين. لكن كيسنجر ليس مطلوبا في شيلي من جانب أسر الضحايا مطلوب فيها للاستجواب, وفي فرنسا للشهادة في قضايا قتل أمريكيين واختفاء فرنسيين في شيلي بعد استيلاء بينوشيه علي السلطة. ففي فرنسا فتح القاضي روجر لولوار عام 1999 م تحقيقا في قضية اختفاء فرنسيين من شيلي خلال السبعيينات وطلب استدعاء كيسنجر للشهادة حول الدور الذي لعبته الولاياتالمتحدةالأمريكية في مقتل شخصيات معارضة في شيلي ابان الحكم اليمني للجنرال بينوشيه وبعث لولوار رسالة الي ادارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون يطلب فها إدلاء كيسنجر بشهادته لكن الادارة لم ترد علي لولوار. عاد لولوار ليكر المحاولة في مايو 2001 م وارسل مذكرة استدعاء مباشرة الي كيسنجر والتي تسلمها بالفعل في حادث مثير فقد كان كيسنجر في زيارة وقتها لباريس ويقيم في فندق ريتز العريق وفي الثلاثين من مايو اقتحم رجال الشرطة الفرنسية مدخل الفندق, ومعهم امر الاستدعاء الذي تسلمه كيسنجر, لكنه رفض تنفيذه وقرر ترك باريس والسفر الي ايطاليا دون الاستجابة لطلب الاستدعاء, وأبلغت السفارة الامريكية في باريس القاضي لولوار ان عليه التقدم بطلب رسمي الي ادارة الرئيس جورج بوش لكي يسمح لكيسنجر بالادلاء بشهادته. وإزاء تكرار الرفض كشف الجانب الفرنسي عن وثيقة صادرة من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 23 أغسطس 1976 م تؤكد ان الادارة الأمريكية آنذاك كانت علي علم بخطة أطلق عليها اسم كوندور ا تفقت شيلي عليها من عدد من حكومات دول امريكا اللاتينية لاغتيال شخصيات معارضة ووفقا لمعلومات لولوار فان جان ايف لكوريه فرنانديز اليساري الفرنسي كان بين الفرنسيين الذين اختفوا في اطار خطة كوندور. وربما شجعت محاولة استدعاء كيسنجر في فرنسا برغم عدم نجاحها ورفضه الخضوع للتحقيق والادلاء بشهادته الشيليون الي الاقدم علي محاولة مماثلة فقد فتح قاضي التحقيقات خوان جوزمان في الرابع من يوليو 2001 م بعد أقل من شهرين آخر محاولة فرنسية تحقيقا في قضية مصرع الصحفي الامريكي تشارل هورمان علي يد عناصر تابعة لبينوشيه بعد أيام من انقلابه الدموي في سبتمبر 1973 م اقتحموا منزله في سنتياجو العاصمة واقتادوه الي جة مجهولة وفيما بعد عثر علي جثته مقتولا. هذه المرة أرسل القاضي الي المحكمة العليا في سنتياجو قائمة خطية اسئلة أبدي رغبته في طرحها علي الوزير الأمريكي الأسبق حيث ذكرت عائلة هورمان ان السفارة الأمريكية كان علي علم بأنه متحجز في مركز اعتقال جماعي سيئ السمعة اقيم في ستاد شيلي الوطني لكنها لم تفعل شيئا لمساعدته. اسوأ مما فعله نظما بينوشيه مع الصحفي الأمريكي فعلته سلطاته معه, فقد كشفت وثائق وزارة الخارجية التي رفع السرية عنها في نفس التوقيت ان مسئولين في الاستخبارات الأمريكية ساعدوا من وراء ستار علي ما يبدو في عملية خطف هورمان وفشلت محاولة استدعاء كيسنجر هذه المرة أيضا. لكن هذا الفشل لم يمنع سلطات التحقيق في الارجنتيين من تكرار المحاولة للمرة الرابعة في الشهر التالي( اغسطس) من نفس العام حيث وجهت مذكرة استدعاء الي كيسنجر للادلاء بشهادته في قضية تصفية المعارضة السياسية لانظمة الحكم الديكتاتورية في الارجنتين المدعومة امريكيا خلال الستينات والسبعينيات وفشلت هذه المحاولة أيضا ولم يستجب كيسنجر. في المرة الخامسة حدث تحرك جماعي فقررت سلطات التحقيق في ست دول لاتينية هي شيلي والبرازيل الارجنتين وباراجوي وبوليفيا وأوراجواي فتح تحقيقات شاملة في قضية تصفية المعارضة علي أيد ي انظمة الحكم السابقة فيها المدعومة عسكريا واستخباراتيا من الادارات الأمريكية السابقة في اطار خطة كوندور التي اتضح انها لم تكن تتعلق بتصفية المعارضة في بلد واحد بل في كل أمريكا اللاتينية وعهدت سلطات التحقيق الي وزارات الخارجية اتخاذ الاجراءات القانونية حيال الولاياتالمتحدة من أجل احضار كيسنجر للاستماع لشهادته.. لكن المحاولة الخامسة فشلت الي اجل غير مسمي لكون فتح الملفات سيجعل قضية واحدة مثل كرة الثلج تكبر لتطال فضائح ربما أخري كثيرة للسياسة الأمريكية في أمريكا اللاتينية. وإزاء ذلك قرر كيسنجر من جانبه تسليم وزارة الخارجية عشرة آلاف صفحة من وثائق كانت بحوزته تتعلق بسجله خلال توليه منصب وزير الخارجية.