محمد البرغوثي - إبراهيم السخاوي : حدث ذلك بعد أقل من ساعة واحدة من خطاب التنحي الذي ألقاه عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق ليلة11 فبراير الماضي. حشود لم يسبق لأحد منا أن شاهدها في حياته تتدفق من كل حدب وصوب علي ميدان التحرير لتحتفل بانتصار الشعب وسقوط نظام حسني مبارك. عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المواطنين يندفعون في فرح غامر نحو الميدان, وكان علينا أن نخترق الشوارع الجانبية لتفادي هذه الكثافة البشرية غير المسبوقة في تاريخ مصر كله.. وبعد أقل من ساعة من القاء خطاب التنحي وجدنا أنفسنا علي مشارف طوفان من البشر: أولاد وبنات, رجال ونساء, أطفال وشيوخ, يندمجون معا في ترديد أغنية بالأحضان للمطرب الراحل عبد الحليم حافط.. ويتمايلون في تناسق وتناغم مدهشين علي ألحان الأغنية وهم يصدحون دون أدني نشاز بكل كلمة وجملة من الأغنية التي اكتسبت في هذه اللحظات الفارقة من تاريخ مصر, ومن أعمار المصريين, معان جديدة تدفقت فجأة مثل شلال ماء طاهر وغسلت قلوب البشر, ووحدتهم دون قسر او افتعال, في غنوة لها مذاق حضن الأم ولهفة الأب وحنان الأخت وكبرياء الأخ. من أين تأتي هذه الأغنية؟ كان صاحب أحد المحلات القريبة من ميدان طلعت حرب, قد وضع ألبوم أغاني وطنية لعبد الحليم حافظ في الكاسيت الموصول بسماعات ضخمة وضعها علي رصيف الشارع امام المحل, وما أن صدح عبد الحليم بجملة بالأحضان يابلادنا ياحلوة بالأحضانحتي انهمرت دموع الطوفان البشري الذي توقف فجأة, وراح يردد الأغنية بصوت من أعجب الأصوات التي يندر تكرارها في أي مكان او زمان, صوت تختلط فيه حشرجة البكاء مع رنة الفرح, وشيئا فشيئا عثر الطوفان البشري علي مساحة صوتية حنونة وهادرة, راحت تملأ فضاء الميدان وتفيض عنه, لتغطي العمارات والشوارع المتفرعة عن الميدان. هل سبق لك أن رأيت انسانا أو شعبا يحتضن بلده, بالمعني الملموس لكل ما في الحضن من تلاحم وتلامس شديد الصفاء والطهارة؟ نحن رأينا وسمعنا, وبعد لحظات قليلة من دهشة الرؤية وروعة الانصات تحولنا الي جزء من الكل, والي مساحة محددة من هذا الحضن الشاسع, وكان بامكان كل منا أن يقبض بكل جوارحه وأعضائه وخلاياه ومشاعره علي بلده وهي مرمية في حضنه باكية ومبتهجة بعودتها بعد غياب طويل وقسري, الي أهلها الطيبين. في معادك يتلموا ولادك/ يابلادنا وتعود أعيادك/ والغايب مايطيقش بعادك/ يرجع يأخدك بالأحضان. بالأحضان ياحبيبتي يا أمي/ يابلادي ياغنيوة في دمي/ علي صدرك أرتاح من همي/ وبأمرك أشعلها نيران/ بالأحضان يابلادنا ياحلوة بالأحضان. وسط هذا الطوفان البشري, راح كل شخص يحتضن أقرب الناس اليه, يحتضنهم مثل غريب ألقت به موجة فرح عاتية في باحة بيته, وبين الحضن والحضن يفرد ذراعيه في الهواء ويتمايل مع الطوفان البشري وهو يردد مقطعا جديدا من اغنية العندليب: ياما لفيت سواح متغرب/ وأنا دمي بحبك متشرب/ أبعد عنك قلبي يقرب/ ويرفرف ع النيل عطشان/ بالأحضان يابلادنا ياحلوة بالأحضان. ياالهي.. كيف يمكن لعشرات الآلاف من البشر أن يتفقوا فجأة- ودون ترتيب مسبق- علي هذا التلوين الصوتي المسكون بالتدليل والحنية وهو ينطق جملة: يابلادنا يا حلوة؟ ومن أين اندلع كل هذا اليقين لدي هذا الطوفان بأنها فعلا حلوة؟ ألم نكن قبل أيام, بل قبل ساعات, نشكو قبح هذه البلاد لطوب الأرض؟ ألم نكن نتعذب من مجاريها الطافحة وطرقاتها المبقورة الأحشاء والقاذورات التي تغطي أغني وأفقر أحيائها وشوارعها؟!. هل كنا نبالغ في الشكوي من فرط الحب؟ أم كنا نطوي الصدور علي يقين أنها فعلا حلوة ولكن حلاوتها توارت خلف وساخات الحكام الذين اختطفوها من أهلها الكادحين الضعفاء؟.. وأين كانت كل هذه القوة التي زلزلت الأرض تحت أقدام خاطفيها؟ اتقويت ورفعت الراس/وبكيت فرحة وشوق وحماس/ وبقيت ماشي في وسط الناس/ متباهي بوطني فرحان/ بالأحضان يابلادنا ياحلوة بالأحضان. هل سبق لكم أن وقفتم مشدوهين امام انسان- أي انسان- يقف شامخا قويا معتزا بنفسه, ولكنه في الوقت ذاته يذوب رقة وحنانا وأريحية؟ نحن رأينا عشرات الآلاف من المصريين بعد أقل من ساعة من خطاب التنحي, كان كل منهم هو التجسيد الفذ للصلابة المتناهية الرقة, وللشموخ المتناهي التواضع. وآنذاك.. كانت بالأحضان التي كتبها شاعر مصر العظيم الراحل صلاح جاهين ولحنها الموسيقار كمال الطويل وغناها العندليب, هي قيثارة الأمة وغنوتها الأكثر تعبيرا عن هذه اللحظات المجيدة. واليوم الأربعاء03 مارس تحل الذكري الرابعة والثلاثين لرحيل مغني ثورة2591 العندليب عبد الحليم حافظ, الذي أعادته ثورة52 يناير1102 من غيابه البعيد, ليكون صوته الرائع هو فرحة الأمة وكبريائها واشواقها الدامعة الي الكرامة والتحرر من عبودية القبح والفساد. ألم تكن هناك أغان أخري من انتاج عصر مبارك تصلح للتعبير عن هذه اللحظة؟.. المؤكد أن كل مواطن لديه بعض الأغنيات التي تصلح بالكاد لهذه اللحظة.. ولكن الوجدان الجمعي اختار هذا الحضن الرائع والمدهش لأنه- يقينا- الأكثر دقة في استيعاب شلال الفرح الغامر للطوفان المصري الذي انشقت عنه الأرض في لحظة انتصار الشعب.. وهزيمة الطاغية. رحم الله العندليب.. وعاشت مصر الحلوة لأصحابها الطيبين حضنا وسيعا تظلله المصانع والمزارع والمداين والجناين.