دفعت مسيرة التاريخ بعض الفلاسفة للاعتقاد بأنه في اعماق الانسان تسكن رغبة دفينة في تدمير ما انجز, وان حياة الانسان علي الأرض سلسلة من أعمال الهدم والبناء, الانجاز والتدمير, وكانت الحروب عند بعض المؤرخين تعبيرا عن تلك الرغبة الكامنة في عمق النفس البشرية للتدمير, وذهب البعض في تفسير نشأة الرياضة منذ سنوات التاريخ الأولي إلي أنها محاولة لاستنزاف طاقات العنف لدي الانسان ومحاصرة رغباته المدمرة, وسواء قدم هؤلاء الفلاسفة والمؤرخون تفسيرات صحيحة ام خاطئة لنشأة الرياضة منذ نحو سبعة آلاف عام علي الأقل, إلا انها ظلت لقرون طويلة نشاطا اعتبره البعض اقرب إلي اللهو البشري, حتي اعادت وسائل الاعلام في القرن العشرين اكتشاف التأثير السياسي والاجتماعي والاقتصادي الناتج عن ممارسة الانشطة الرياضية في حياة البشر. قد يميل البعض إلي الاعتقاد بأن الرياضة والسياسة نشاطان منفصلان أو هكذا يريدونه, ولكن الحقيقة هي ان الرياضة والسياسة ارتبطا ببعضهما بعضا منذ قرون بعيدة, حتي زمن تنظيم اليونانيين الاقدمين لالعاب الاوليمب, وفي القرن التاسع عشر اخذت العلاقة بين الرياضة والسياسة ابعادا غير مسبوقة, ففي عام1862 ظهرت في براج حركة سوكول الرياضية التي كانت في بدايتها مركزا للتدريب علي اللياقة البدنية, ومن خلال انتشارها ومحاضراتها ومناقشاتها ورحلاتها وتدريباتها التي تجاوزت اللياقة البدنية إلي الفكر, استطاعت القيام بدور كبير في ظهور القومية التشيكية, وبعد ان خضعت المانيا لنابليون ظهرت حركة رياضية اخري حركة تيرنر تجاوزت بتأثيراتها الالعاب الرياضية حتي اسهمت في توحيد المانيا, وحين هاجر الكثير من اعضائها إلي الولاياتالمتحدة اصبحوا قوة داعمة لانتخاب ابراهام لنكولن وتولوا حراسته باجسادهم القوية في حياته واثناء جنازته في ابريل عام1885, وفي فرنسا كان انشاء اللجنة الأوليمبية الدولية علي يد البارون دي كوبرتان اخر محاولات القرن التاسع عشر لتأكيد العلاقة التاريخية بين السياسة والرياضة, كان الهدف من كل تلك التطورات هو ان تظهر حروب وتكتمل انجازات بلا اسلحة وبلا نيران, وفي القرن العشرين بدأ الاهتمام بالرياضة ودورها المتصاعد في بناء القوميات وفي العلاقات الدولية علي السواء. الرياضة جزء اصيل من الثقافة الاجتماعية والسياسية في كل مجتمع علي وجه الأرض, ولذلك كانت الرياضة ولاتزال تمارس تأثيرا قويا في بناء الهوية الوطنية والحفاظ عليها والتعبير عنها, وفي بعض الاحيان تمارس الرياضة خاصة كرة القدم بشعبيتها دورا سلبيا في التعبير عن الصراعات المحلية وتأكيد هوية الكيانات العرقية المتعايشة في امة واحدة, الأمر يتوقف علي السياق الذي تمارس فيه الرياضة. وعلي صعيد العلاقات الدولية تبرز الكثير من الأحداث الرياضية التي كانت تحمل دلالات سياسية بالغة الوضوح, فحينما نظم هتلر دورة الالعاب الاوليمبية عام1936 اثير الكثير من الجدل السياسي, فقد كان هتلر يريد بتنظيم تلك الدورة دعم الوحدة النفسية بين الالمان وتصدير الزهو الالماني للعالم, وفي عام1980 قاطعت الولاياتالمتحدة وكندا دورة الالعاب الصيفية في موسكو احتجاجا علي الغزو السوفيتي لافغانستان, وكان الرد السوفيتي بمقاطعة دورة لوس انجلوس عام1984 وخلال الفترة الواقعة بين1968 وحتي1992 حرمت جنوب افريقيا من المشاركة في اي دورة اوليمبية احتجاجا علي التفرقة العنصرية التي مارستها الاقلية البيضاء هناك, وحرمت منتخبات زيمبابوي من المشاركة في العديد من البطولات الدولية احتجاجا علي سياسات روبرت موجابي, وحينما نظمت الصين دورة الالعاب الاوليمبية في بكين عام2008 تصاعدت اصوات الاحتجاج ضد المشاركة بسبب سياسات الصين في التبت. كانت المقاطعات الرياضية وسيلة من وسائل الدبلوماسية الناعمة تمارسها الكثير من الدول للاحتجاج السياسي والشعبي دوليا, وكانت بديلا للعقوبات التجارية التي تكلف أكثر وتحقق شعبية اقل, فمقاطعة الاحدث الرياضية كانت أكثر تأثيرا علي مستوي الرأي العام وأقل تكلفة من الناحية الاقتصادية ومن غير المحتمل ان تنشأ عنها صراعات حقيقية, وخلال نصف القرن الماضي كان اختيار الدول لتنظيم البطولات الرياضية تعبيرا عن الاعتراف بعودتها الحميدة لحظيرة الدول الغربية الكبري, ففي عام1964 تم اختيار اليابان لتنظيم الالعاب الاوليمبية وتم اختيار المانيا عام1972 لتنظيم الاوليمبياد وسمح لجنوب افريقيا بالمشاركة في دورة برشلونة عام1992 واخيرا تم اختيارها لتنظيم الدورة المقبلة لكأس العالم في كرة القدم. وتقدم سياسات الاتحاد السوفيتي الرياضية عشرات الادلة علي الاستخدام السياسي للرياضة داخليا في بناء الامة السوفيتية وخارجيا في الدعاية للشيوعية ومحاولة اثبات تفوقها علي النظم الأخري, فقد انسحب السوفيت من الالعاب الاوليمبية من عام1917 وحتي عام1941 حتي يتمكنوا من تحقيق مفهوم رياضة الطبقة العاملة, والاهتمام بالثقافة الجسمانية التي اجتذبت فيما بعد بقية دول العالم, لقد غير السوفيت مفهوم الدبلوماسية الرياضية من كونها تعبيرا عن النوايا الحسنة في العلاقات الدولية إلي استخدامها وسيلة لاظهار التفوق والدعاية وبناء السمعة والنفوذ. وعلي صعيد ما حدث في مباراة مصر والجزائر, فان الصراع الدائم بين فريق كرة القدم سيلتك والرانجرز في سكوتلاند يصلح إطارا قد يفيد في فهم الذي حدث في سياق عربي تتصدر مصر مشهده الثقافي لسنوات ليست بالقليلة, فقد اصبح فريق الرانجرز تعبيرا عن الاغلبية البروتستانتية الاسكتلندية بينما اصبح فريق سلتك عنوانا علي الهوية الكاثوليكية للمهاجرين الايرلنديين وفي حين ادت اتفاقيات نزع الاسلحة وتقاسم السلطة إلي تخفيف حدة الصراع بين الاسكتلنديين البروتستانت والمهاجرين الايرلنديين الكاثوليك, فإن السخط المتبادل ظل قائما يعبر عن نفسه بوضوح في الوان الفريقين وانقسام المشجعين بينهما علي اساس طائفي حيث اصبحت كرة القدم اداة قوية من ادوات الحفاظ علي هوية كل طائفة وتوفير المزيد من فرص استمرار الصراع. ربما ساعدت الأوضاع الثقافية والنعرات العرقية في الجزائر علي ماحدث دون ان ننكر الاخطاء المصرية التي ارتكبت, فالجزائر تعاني صراعا عرقيا بين اقلية عربية واغلبية امازيغية, ومصر من أكثر الدول التي ساعدت جهود التعريب في الجزائر وهي جهود لقيت تفسيرا معاديا من الاغلبية الراغبة في الحفاظ علي هويتها الامازيغية, ولذلك جاءت كرة القدم وسيلة يؤكد بها الامازيغ هويتهم وتمايزهم عن محيطهم العربي ويعربون عن سخطهم نحو العروبة التي تمثل مصر رمزها الاساسي في تاريخ الجزائر الحديث, لا اجزم بصحة هذا التحليل, ولكنها رؤية تنبه إلي الأهمية السياسية والثقافية التي تمثلها الرياضة في هذا العصر, والتي اصبحت ابعد من ان تكون هواية او نشاطا يمارسه الناس في أوقات الفراغ, والحقيقة ان وسائل الاعلام اصبحت تتصدر المشهد الرياضي المعاصر في مختلف انحاء العالم. فقد تحولت وسائل الاعلام بالرياضة من الهواية إلي الصناعة ومن النوايا الحسنة إلي التفاعل النشيط مع العوامل التي تبني هوية الامم وتحافظ عليها, وتلك التي تحكم العلاقات الدولية المعاصرة وهو موضوع مقالة قادمة. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين