شعور الإنسان المعاصر بأنه محاصر بالعنف في كل مكان, وبأنه يتصاعد في صورة جديدة لم نعهدها من قبل, ومن ثم سكن القلق في وجدان الإنسان المعاصر. أولا: العنف في العالم: لا نستطيع القول بأن العنف خلال عشرين سنة مضت وحتي اليوم قد ازداد ولم يكن بهذا الحجم في الماضي وكيف ننسي ثماني وأربعين حربا قامت علي سطح الأرض خلال الستين سنة الماضية دون التوغل في التاريخ, حيث كانت الحروب منتشرة في كل مكان لكن عنف السنوات العشرين الأخيرة تميز بظاهرتين, الأولي أنه عنف بلا أيديولوجية محددة وله طابع البربرية والهمجية والوحشية, أنه عنف حيواني لا يمت بصلة لموقف سياسي أو ديني ودعك من لبس ثوب الدفاع عن الدين أو اتخاذه حجة للقتل والتدمير فليست الأديان إلا دعوة للحرية والنور والحب. ولنأخذ أمثلة علي ذلك, في الحرب اللبنانية بين سنة1975 وحتي1992 حدث ما لم يكن يحدث من قبل, القتل للقتل علي الهوية, صديق الأمس والجار القديم أصبح قاتلا لصديقه ولجاره, دون أن تكون بينهما شخصيا قضية ما. ثم حرب يوغوسلافيا القديم, كان القتل للقتل, إنه الشر بعينه فليس لهدف سياسي أو بهدف إعلان حرب, وقتل الأطفال دون ضمير ينبض بالانسانية انه عنف جديد. وفي رواندا حرب لا تفسير لها بين أصدقاء الأمس والأصهار والشركاء لا شأن للسياسة بهذا كله, وإنما هي الرغبة في القتل. ثم جاء حدث11 سبتمبر2001 دون الدخول في التفاصيل يمكن القول انه افقد الرؤية لمستقبل البشرية فقد دمرت تماما, وأقسي ما يمر به الانسان أن يحيا بلا رؤية واضحة أو أمل, لقد سقطت الشيوعية سنة1989 وسقط معها نظام عالمي استمر لحقبة قرن إلا قليلا من الزمن, كتلة شرقية وكتلة غربية, وفجأة وجد العالم نفسه أمام قوة وحيدة مسيطرة دون معارضة, وحدث مايشبه الفوضي في النظام العالمي وسقط تفاؤل أحاط بالبشر قبل هذا الحدث في زمن بين سقوط الشيوعية وحدث سبتمبر1989 .2001 عشرون سنة فترة سماها البعض نهاية التاريخ أو أطلق عليها فترة الكنطية نسبة إلي الفيلسوف كانط الذي ربط بين الأمل في الاستقرار وبين السلام المتبادل بين الشعوب, وفي هذه الفترة نشط دعاة حقوق الإنسان, وتصاعدت الرغبة في جهود التنمية, وتسابقت الشعوب في مد يد العون للعالم الثالث ونقلت أحداث11 سبتمبر الوجدان البشري من هذه الفترة المستقرة إلي فترة عالم هش محاصر بالأخطار ليس له رؤية كما صوره الفيلسوف نيتشه قبل قبل ذلك في تشاؤمه ويأسه. نعم كانت الأخطار تحيط بالبشر من جراء تقدم أسلحة الدمار الشامل والقلق يسري في وجدان البشر, لكن التغيير الذي حدث بعد ذلك أن العنف اخترق كل منظومات الدول والمجتمعات, لم يعد عنف دولة ضد دولة وإنما أصبح عنفا يمزق أواصر المجتمع الواحد والأسرة المترابطة, وانفجرت ثورة العشوائيات في مختلف أنحاء العالم, وجاء العنف من قلب وصميم المجتمع الواحد وفي داخله, وأصبح المجتمع الذي كان آمنا, مستقرا, متماسكا, في خطر التفكك وسقطت هيبة الدولة والقانون وهما إطار السلام الاجتماعي, وظهرت نظرية اللوح الزجاجي المكسور في كتاب جيمس ولسون وجورج كينج الذي ترجم إلي لغات كثيرة والذي يشرح نظريته بقوله: عندما يتحطم لوح من الزجاج في شقة أو عمارة ولا توليه اهتماما أو تعيد إصلاحه فمن المحتمل أن يتكرر هذا علي التوالي, فيكسر لوح آخر, وآخر, ومن ثم يتحول المكان إلي مايشبه الخرابة تعشش فيه الحشرات المؤذية, ذلك لأن إحكام قفل النوافذ والأبواب إنما يرمز إلي مجتمع متوحد مترابط بينما الاختراق يرمز إلي ضياع هيبة القانون والأعراف. لقد كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر أكثر عنفا ودموية وحروبا من هذا العصر إلا أن المجتمعات كانت صلبة قوية ثابتة الأركان والأعراف, استطاعت أن تصمد, أما اليوم فالخطر يكمن في هشاشة المجتمعات وتفكك تقاليدها وأخلاقها, مما أتاح للعنف أن يستبيح معقلها. وبعض المفكرين يشير إلي تيار العنف الذي يحاول تدمير الحضارة والدولة المدنية مثل الباحث( سبستسان روشيه) في كتابه ضد المدنية والأمن أنها محاولة قطع كل الروابط في حدها الأدني التي تربط أبناء المجتمع, يعتبرها خطرا في صميم تكوين الانسان بل أشار بعضهم إلي أن تدمير الحضارة عنف منظم وممنهج وبالرغم من فداحة العنف وقسوته في القرنين الماضيين فإن عنف هذا العصر إنما يواجه مجتمعات أقل تماسكا وصلابة مما كانت عليه في الماضي, أنه عنف شرير في ذاته مصدره الشر الكامن في أعماق بعض الأشخاص, لا صلة له بالدين أو بالسياسة والاقتصاد, فالله تبارك وتعالي خلق الإنسان ليحيا ويعمر الأرض لا ليقتل وتصبح الحياة الهبة الإلهية مأساة وبؤسا. هناك حقيقة قد نسيها البشر وهي أن بعض النفوس ضعفت إلي حد قد امتلكها الشر تماما. ويكتب الكثيرون من أهل الغرب وفي أمريكا عن شيخوخة أصابت أوروبا, فلم تعد القارة المحركة للعلم أو الحرية أو الديمقراطية بل تنبأ كثيرون بأنها في طريق انقلاب ديموغرافي سكاني بعد أن أصابها العقم وأحجمت عن الانجاب وأرادت أن تعيش اللحظة دون وعي برسالة الحياة وبمعني الوجود, وقد شاع فيها الحس المادي, أما في العالم الثالث فالخطر كل الخطر آت من العشوائيات التي امتدت كسرطان مدمر لكل جهود التنمية والترقي مع غياب الحس بالقانون واحترامه فالقانون أي قانون يولد ميتا مادام الود والمصالح الشخصية والاستثناء يعطل تحقيقه, فيعلن القانون ويرضي به الناس وهم يعلمون أن له بديلا هو الود أو الرشوة أو المحسوبية. كان العنف في الماضي يرتكز علي التطرف الديني والتعصب المذهبي, أو علي الأزمات السياسية والتوترات الاجتماعية والانقلابات العسكرية, أما اليوم فنحن أمام عنف بلا مبرر وليس له شرح إلا نزعة الشر وهذه النزعة الآخذة في التصاعد تحتاج إلي تربية وثقافة منذ الصغر ومنهج ديني شامل يربي أجيالا تعرف حقوق الإنسان, وقدسية القوانين وسمو القيم الروحية.. لتغلب نزعة الخير والجمال علي نزعات الشر والقبح. العالم في حاجة الي إنسان سلام قبل احتياجه للقمح والقنبلة.