لأن الشيء بالشيء يذكر, فإن الحرص علي وجود نائب لرئيس مجلس الوزراء معني بإدارة حوار وطني في هذه المرحلة الانتقالية المهمة. إن حوار المستقبل. الذي نحتاجه بعد ثورة52 يناير الشعبية, ضمانا لنجاحها والحفاظ علي مكاسبها وتأكيدا لدورها في رسم ملامح مصر الجديدة, يتطلب منا جميعا أخذ المحاور الآتية في الاعتبار: الفهم الواعي للسياق الاستراتيجي الذي يجري فيه هذا الحوار. الإدراك الناضج للعلاقة العضوية بين مصر التاريخية التي ننتمي اليها, ومصر الجديدة التي تنتمي إلينا. التحديد الواضح لدوائر ومجالات الحوار المطلوبة, وطبيعة اللاعبين الرئيسيين فيها, وكيفية التواصل بينها حتي يكون الحوار وطنيا ومجتمعيا شاملا. التحديث الكامل لثقافة الحوار وآلياته ومناخه, بالصورة التي تنعكس إيجابيا علي نواتجه ومخرجاته. وأخيرا, الرؤية الشاملة لما نريده منه, التي تمكننا من الحكم علي نجاحه, هذا هو التصور المنهجي لمحاور الحوار, الذي جاء ليبق في إدارة المجتمعات المتحضرة لشئون حياتها, ولا بأس من التعرض لكل محور منها ببعض التفصيل, الذي يسمح به المجال. بالنسبة للسياق الاستراتيجي للحوار, أود أن أشير الي دراسة حديثة صدرت تحت عنوان التوجهات الاستراتيجية الكوكبية حتي عام0402, نصف الفترة المذكورة بكونها زمن التحولات, الذي يتميز بعدم الاستقرار في العلاقات بين الدول من ناحية, وبين الجماعات المختلفة داخل كل دولة من ناحية أخري, كما أنها ستشهد تحديات ذات أبعاد كبيرة, كالتغير المناخي والانفجار السكاني وندرة الموارد ونهاية عصر الغذاء الرخيص, وتستطرد الدراسة لترجح انبعاث الأيديولوجيا بأشكال جديدة, وتحول القوة من الغرب الي الشرق, والصراع حول بناء نظام فعال للحوكمة العالمية, يدعمه التراخي الملحوظ في العولمة القائمة علي الأحادية القطبية, ومع أهمية هذا الطرح, لابد أن تضيف آلية البعد الجديد لقوة الثورات الشعبية, وطلائعها الشبابية, التي تشهدها المنطقة العربية بالذات, وما ستئول اليه هذه الثورات. ومع روعة ثورة يناير1102, التي دفعتنا الي أن نحلم بمصر الجديدة, حدث خلط كبير بين حبنا العميق لمصر العتيدة, مصر التاريخية صاحبة أقدم حضارة ودولة عرفها البشر, وبين رفضنا العميق أيضا لاستمرار الفرعونية في حكمها, ورغم أن من الصعب أن تساوي بين فرعون موسي وفرعون التوحيد, وبين بناء الحضارة واستبعاد البشر, إلا أننا ثرنا ونثور من أجل مصر التاريخية, التي ننتمي إليها, والتي من حقها أن تتجدد دوما, وأن تلحق بركب الحضارة والتقدم والخلاصة, أن مصر التاريخية, التي تنتمي الينا دون مراء, هي أساس مصر الجديدة التي تنتمي إلينا دون التواء, ولا أظن أن الحوار يمكن أن يخرج عن هذا الإطار! وحتي يكون الحوار الوطني متعمقا وشاملا, قد يكون من الأفضل تنظيمه في دوائر مختلفة, يتم التنسيق بينها, وتجميع حصادها في مؤتمر وطني, أو أية آلية مناسبة أخري, وأقترح لدوائر أو مجالات الحوار أن تشمل: الدائرة المجتمعية/ الثقافية. الدائرة القطاعية/ الفئوية. الدائرة السياسية/ الاقتصادية. الدائرة الاستراتيجية/ المستقبلية. علي أن تكون المشاركة في كل دائرة للمفكرين والخبراء والأشكال التنظيمية والمؤسسية المختلفة, المهتمة بمجالات كل دائرة, ولا شك أن هذا التنظيم المقترح يعد مبدئيا, قابلا للنقد أو النقض, والمهم هو التوصل الي تنظيم مناسب, وجدول أعمال محدد في موضوعاته وزمن الانتهاء منه. ولأنه لا جدوي للحوار دون الاتفاق علي فلسفته ودستوره الاخلاقي, فلابد أن أسجل إعجابي بعمق وبساطة الأسس التي أوضحتها دراسة حديثة أخري عن شروط الحوار الفلسفي بين الثقافات, إنها تطالب المشاركين بما يلي: تبني منهجية للإنصات, تستبعد الصور النمطية, وتتسم بالحياد والموضوعية, ولا تتسم بأسلوب الحكم قبل المداولة, الذي ينتشر في الكثير من حواراتنا الشكلية. الاقتناع الكامل بالمساواة الكاملة بين أطراف الحوار, واحترام الآراء المخالفة, دون أن يعني ذلك قبولها. إنفتاح فكري ناضج بالنسبة لنتائج الحوار, بما قد يؤدي الي قبول الرأي المخالف, أو الرفض المهذب له, مع البحث المستمر عن المساحة المشتركة, والالتزام بمواصلة الحوار من أجل المستقبل المشترك, مهما يكن الاختلاف. احترام الجوانب العاطفية والانفعالية, المستندة الي تباين الخلفيات الثقافية لشركاء الحوار, لما لها من حساسية وتأثير علي نجاحه. الاحتفاء بالثراء المعرفي الناتج من تلاقي الأفكار عبر الحوار, بحيث يخرج الجميع أكثر فهما ومحبة, وتصير الحوارات مباريات يفوز فيها كل أطرافها. ينقلنا كل ذلك الي الحديث عن حصاد الحوار إن الالتزام بالمنهج العلمي والعقلاني في إدارة الحوار سيسهل الاتفاق علي الملامح الرئيسية لمصر الجديدة, المتسقة مع تاريخها والمتطلعة الي مستقبلها, والمتمسكة بمدنيتها وديمقراطية إدارتها دون مواربة, والقادرة علي حل مشاكلها المتراكمة والتصدي للأخطار المحيطة بها والوصول إلي المكانة التي تستحقها, ولا توجد في كل ما سبق عبارة انشائية واحدة, لقد دفع الشعب الثمن غاليا, عبر ثورة أشاد بها الجميع, وهو مستعد لاستكمال المسيرة, وبذل الجهود من أجل تحقيق الحلم, ونتمني أن يساعده الحوار الوطني المزمع علي ذلك, سواء أدارته الحكومة الانتقالية أو غيرها, فمن أجل المستقبل نؤكد: الحوار هو الحل.