أنهار من الدم وبحور من الدموع.. تفجرت وسالت علي مر التاريخ في محاولة البحث عن إجابة السؤال الإسلام والسياسة.. ماهي العلاقة بينهما؟! أو... هل هناك علاقة من الأصل بينهما أم لا؟ وإن وجدت هذه العلاقة.. فما كونها؟ وما طبيعتها؟ ماهي الحدود الفاصلة بين الإثنين؟ وأين تبدأ مناطق نفوذ كل منهما وأين تنتهي؟. المطلق والنسبي.. هل يمكن الجمع بينهما؟ وإن أمكن.. فكيف يتداخلان؟! وكيف يتجاوران؟ استفهامات عديدة.. وتساؤلات عميقة.. تولد كلها من رحم السؤال الرئيسي حول.. العلاقة بين الإسلام والسياسة؟! وسواء كنت من المؤيدين أو الرافضين لمسأة وجود علاقة بين الإسلام والسياسة فإن وقائع الأحداث وتطورات الأمور التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير لاشك أن من شأنها أن تضع السؤال حول هذه العلاقة في موقع مهم وخاص من المشهد, بحيث يكون مرشحا لأن يطفو علي سطح الأحداث خلال الفترة المقبلة, لاسيما بعد أن خرج أخيرا حزب الوسط( الإسلامي) الذي يرأسه ابوالعلا ماضي إلي النور بموجب حكم المحكمة الإدارية العليا, وما أعلنه الإخوان المسلمون حول تأسيسهم حزبا باسم( العدالة والحرية) فضلا عما صرح به قادة تنظيم( الجماعة الإسلامية) من أنه سيتم خلال أيام البت نهائيا في مسألة انشاء حزب للجماعة. وهكذا فإن واقع الحال يشير الي امكانية وجود أكثر من حزب ذي مرجعية إسلامية علي الساحة خلال الفترة المقبلة في مصر. لذا فإن ملحق( شباب التحرير) يبادر باطلاق الدعوة إلي حوار وطني.. مجتمعي.. عقلاني.. هاديء.. حول العلاقة بين الإسلام والسياسة. إن رياح الحرية, ونسائم المحبة, التي هبت علي مصر يوم25 يناير2011 تجعلنا نقول بوضوح.., إنه أصبح ممكنا أن ندير حوارا ايجابيا في هذا المجال, يجمع ولايفرق.. يبني ولايهدم.. يدفع عربة الوطن الي فضاء من الأمل, لتنطلق تاركة وراءها ارث سنوات طوال من الألم! إن أهمية هذه المبادرة تنبع من أنها تأتي بعد سنوات عجاف من الرفض والقمع والحظر والإقصاء, الذي مارسه النظام السابق ضد كل التيارات السياسية علي اختلاف ألوانها, وساهمت فيه وروجت له صحف كانت في السابق أبواقا للنظام ثم أراد لها القدر أن تسترد كرامتها, وحريتها, لذا فإنه لم يعد غريبا أن تبادر واحدة من أهم هذه الصحف وهي( الأهرام) الي إطلاق مثل هذه الدعوة. ونحن هنا من جانبنا سوف نبادر الي بدء الحوار عبر تسليط الضوء علي بعض العناصر, لتكون معالم منيرة في طريقنا. في البداية لابد من الإشادة الي أنه من السهل علي الباحث ان يلحظ ما يمكن أن يسمي ب( قلة التنظير) لدي الحركات الإسلامية المختلفة, حيث تزيد كثيرا نسبة ماهو( حركي) علي ماهو( نظري) لدي هذه الحركات وهو مايعبر عنه هشام جعفر رئيس تحرير الموقع الإلكتروني( أون اسلام) ورئيس التحرير السابق لموقع( اسلام أون لاين) الشهير بقوله ان( الممارسة الواقعية) في الحركات الإسلامية عادة ما تسبق( التنظير) أو وضوح الرؤية الكلية, فالرؤية لاتسبق العمل, وهذا يجعل من( العملية) الواضحة التي قد تصل إلي حد البراجماتية هي السمة المميزة لتحولات الحركات الإسلامية( اسلاميون وديمقراطيون, المحرر د.عمرو الشوبكي ص80). وتجدر الإشارة إلي أن الموقف من الحرية يعد العنصر الرئيسي في مساحة الخلاف بين الاسلاميين وغيرهم ويمثل أحد أهم التحديات المقبلة, حيث تشير الادبيات الإسلامية بوضوح إلي أن الحرية مقيدة بالشرع, فالدكتور سليم العوا مثلا يري أن الحرية التي يقررها الإسلام للعقل البشري يحدها قيد واحد هو التزام حدود الشريعة الإسلامية فلايجوز أن يكون الرأي الذي يبديه المسلم إعمالا لهذه الحرية طعنا في الدين أو خروجا عليه, فذلك مخالف للنظام العام في الدولة الإسلامية, يحجر لذلك علي صاحبه, وقد يجوز.. اذا توفرت شروط معينة أن يعاقب عليه( في النظام السياسي للدولة الإسلامية ص211). كما أن الدكتور العوا يقول إنه يوجد قيدان يجب التقيد بهما فيما يتعلق بمسألة الشوري, حيث يشير إلي أن جميع الشئون العامة للأمة المسلمة يمكن أو يجب أن تكون محلا للشوري, إلا أن الشوري لاتكون في أي مسألة ورد فيها نص تفصيلي قطعي الدلالة في القرآن الكريم أو السنة التي تعد تشريعا عاما فهذه الأمور خارجة بالضرورة عن نطاق الشوري, أما القيد الثاني فهو أنه حين تعرض مسألة ما علي الشوري فإنه لايجز أن ينتهي رأي المستشارين الي نتيجة تخالف نصا من النصوص التشريعية الواردة في القرآن أو السنة, اذ أن مثل هذه المخالفة تمنع الأخذ بالرأي الذي تنتهي اليه الشوري وتجعلها بالتالي لاقيمة لها( المرجع السابق ص182). والدكتور سليم العوا, ليس بدعا في هذا الرأي بل إن ذلك يعد هو الرأي العام السائد في الخطاب السياسي الإسلامي, فالدكتور يوسف القرضاوي يقارن بين دولة الإسلام وبين الديموقراطيات الغربية فيقول ان الأخيرة لاتحكمها أصول تقيدها ولاقيم تضبط سيرها فتستطيع أن تلغي الفضائل وأن تقررالرذائل وأن تقنن المظالم وأن تحلل الحرام وأن تحرم الحلال, أما نظام الشوري الذي تقوم عليه الدولة المسلمة فيمتاز بأن للشوري حدودا لاتتعداها, ويضيف موضحا أن عقائد الإسلام الإيمانية وأركانه العملية وأسسه الأخلاقية وأحكامه القطعية لامجال فيها لشوري ولا يملك برلمان ولاحكومة إلغاء شيء منها, لأن ما أثبته الله لاينفيه الإنسان وما نفاه الله لايثبته الإنسان( من فقه الدولة في الإسلام ص63). ونحن نري أن هذا الرأي السائد الذي يجعل الشوري أو الديمقراطية مقيدة بحدود الشرع يحتاج إلي مراجعة ونقاش. وننطلق في هذا من قياس أحوال المجتمع علي الفرد, كالتالي: أن الفرد في المنظور الإسلامي يتمتع بكامل الحرية في الاعتقاد والتصرف, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, وهذه الحرية الكاملة في الإختيار هي الأساس الذي يقوم عليه حساب الله للإنسان, فإذا لم يكن الفرد حرا في اختياره بين الخير والشر فكيف يمكن لله وهو العدل أن يحاسبه علي عمله؟! كذلك المجتمع كما الفرد, حر في اختياراته تمام الحرية, وما يحدد هذا الاختيار أو ذاك انما هي الأغلبية, فإذا ما اختارت الأغلبية اختارا ما وجب تطبيقه وإن كان مخالفا للشرع... أليس من حق المجتمع كما الفرد أن يختار بين الخير والشر؟ فقد يختار مجتمع ما اخنيارا ينحاز إلي ما قد يراه البعض شرا, لا بأس فالمجتمع حر, ويصبح لزاما علي أعضاء هذا المجتمع الإلتزام بتطبيق القانون العام مع العمل علي تغييره سلميا, وذلك بأن يعمل كل فصيل نحو توسيع رقعة أنصاره عبر الإقناع واتباع الأساليب السلمية العقلانية حتي يمكن أن تصبح له الأغلبية يوما فيحدد هو طريق المجتمع كما يريد. والأكثر من ذلك مما يجب أن يرتضيه ويتعهد به الإسلاميون هو أنهم اذا تمتعوا بالأغلبية ووصلوا بالفعل إلي الحكم في المجتمع ثم عادوا وفقدوا هذه الأغلبية فإن عليهم أن يسلموا السلطة طواعية للآخرين ممن يختلفون معهم في الرأي والتوجه, وهو ما ينفي الاتهام الموجه دائما للإسلاميين بأنهم يسعون الي تطبيق الديمقراطية مرة واحدة يصلون فيها للحكم وبعدها يتم تعطيلها. ان القوة السياسية التي تستطيع أن تحصل علي الأغلبية في المجتمع عبر انتخابات حرة وشفافة يكون من حقها أن توجه اختيار المجتمع كما تريد, ولو كان في غير طريق تطبيق أحكام الإسلام. كما أن الإسلاميين ينبغي أن يدركوا أنه لايوجد في الإسلام سياسة واحدة بل سياسات, بمعني أنه لايوجد في الغالب موقف سياسي يكون فيه أحد الأفعال السياسية وحده دون غيره متفقا مع أحكام الإسلام, بمعني أن يكون هذا الفعل مقدسا ومادونه حراما, بل أن إعمال قواعد الفقه الإسلامي الرحبة واسعة النطاق تجيز وتسمح بتطبيق أكثر من فعل في الموقف السياسي الواحد. نقول هذا حتي لايعتبر الإسلاميون في أي زمان أو مكان أنفسهم محتكرين لحقيقة, وان اتجاههم هو الحق دون غيرهم. تلك تحديات عديدة تفرض ذاتها علي الإسلاميين, وتجبرهم علي العودة الي التنظير والبحث في قواعد الفقه الإسلامي وتطبيق الأحكام الإسلامية علي ما يستجد من وقائع. فالفضيلة لايمكن أن تفرض لكنها ينبغي أن تنبع من المجتمع ذاته فيفرضها هو علي نفسه وتصبح قانونا له, ثم دستورا, وهكذا. وهاهو أستاذ الأجيال نجيب محفوظ يشير في عام5891 في( الأهرام) بالثورة في السودان ضد الحكم الشمولي الذي كان قائما والذي اتخذ قرارا فوقيا بتطبيق الشريعة لكنه يعود ويقول في النهاية:(نرجو لمن يتطلعون الي حياة اسلامية متطهرة جديرة بتحدي الفساد والانحلال ان يستوصوا بالصبر والتأني والشوري وأن يوقنوا ان تلك الحياة المنشودة لا توجد بقرار ولا تفرض علي الاخرين بدون رضا واقتناع ولكنها تولد علي مهل بعد تربية ونضال حقا لقد وهب السودان امته العربية ثورة ودرسا فليهنأ بثورته ولننتفع بدرسه حول الدين والديمقراطية نجيب محفوظ ص(112). وليس هناك ماهو أفضل من كلام الشيخ الامام محمد عبده في هذا الاطار ليكون مسك الختام.. يقول الشيخ الامام: ليس في الاسلام سلطة دينية سوي سلطة الموعظة الحسنة والدعوة الي الخير والتنفير عن الشر ثم يضيف: لكن الاسلام دين وشرع فقد وضع حدودا ورسم حقوقا فلا تكمل الحكمة من تشريع الاحكام إلا اذا وجدت قوة لاقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة وتلك القوة لا يجوز ان تكون فوضي في عدد كثير فلابد ان تكون في وحد وهو السلطان او الخليفة فالامة أو نائب الامة هو الذي ينصبه والامة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متي رأت ذلك في مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه( الاعمال الكاملة للشيخ محمد عبده تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة ص106 الجزء الاول) وعندما اشترك الشيخ الامام في حزب سياسي هو الحزب الوطني المصري عام1881 صاغ برنامجه بنفسه وكتب مادته الخامسة( المرجع السابق ص109) قائلا:( الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة المذهب وجميع النصاري واليهود وكل من يحرث ارض مصر ويتكلم لغتها منضم اليه لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات ويعلم ان الجميع اخوان, وان حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية, وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون ان الشريعة المحمدية الحقة تنهي عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء.