بين الرثاء والشماتة تلقي المصريون علي مدار الأيام القليلة الماضي ما تم تداوله بشأن صحة الرئيس السابق محمد حسني مبارك. وهو ما يمكن تلخيصه بأن المصريين العاطفيون بطبعهم, يعانون تأرجحا عاطفيا تجاه الرئيس السابق, بين رؤيتهم له كرجل حكمهم30 عاما, وتعايشوا مع خطاباته وقراراته البطيئة منها والمعتادة كما في منحة عيد العمال وبياناته بمناسبة عيد تحرير سيناء أو ليلة القدر, قبل أن يوزع المكافآت علي حفظة القرآن النابغين, وبين صورة حاكم بدأ عصره رافعا لافتات العفة, ورافضا ظهورعائلته في وسائل الإعلام, لينتهي به الأمر أبا لابن لا يريد سوي اعتلاء الكرسي نفسه الذي احتفظ به الأب لعقود. ولأن الرئيس السابق- ومن حوله- كان يعرف جيدا تلك العواطف الجياشة للمصريين, راهن عليها كاتب بيانه الثاني الذي ألقاه مساء الثلاثاء الأول من فبراير الحالي, والذي خاطب فيه مشاعر المصريين مذكرا إياهم بالعشرة والعيش والملح, وهو ما استمر في مرحلة ما بعد تنحيه في تيارين متعارضين لا يمكن تجاهلهما في الشارع المصري, ففي الوقت الذي عبر فيه الملايين عن فرحتهم في الشوارع والميادين, بكي البعض الآخر مودعا الرئيس بمحبة نعتقدها حقيقية, ويمكن تفسيرها في إطار ما هو معروف في علم النفس باسم عقدة ستوكهولم, حيث يقع الشخص المخطوف في غرام خاطفه متذكرا له حوارا طيبا أو لمسة حانية أو وجبة طيبة متجاهلا أن هذا الشخص كان مسئولا عن حرمانه من حريته, وهي وإن كانت مشاعر عاطفية مرضية إلا أنها تظل أكثر استيعابا من التحولات التي صاحبت لغة الصحف المعروفة بالقومية من قمة التأييد بعناوين الملايين تخرج لتأييد الرئيس عشية الأربعاء الدامي2 فبراير, إلي الشعب أسقط النظام عشية جمعة التنحي. ما يصحش التقيت السيدة سمية العاملة بمستشفي العجوزة في عربة السيدات بمترو الأنفاق, لونها الخمري وعينيها المسحوبتان وجبهتها المعصوبة بطرحة سوداء تجعلها أشبه بنسوة الفنان التشكيلي الكبير محمود سعيد. عبرت لي عن ألمها قائلة: كنت يوم الجمعة وأسرتي نجلس إلي الطبلية نتناول الغداء, بينما التليفزيون يوافينا بما يستجد, وبمجرد أن نطق اللواء سليمان بكلماته توقفت عن تناول الطعام وبكيت. بكيت وكأن أمي- التي رحلت بالفعل قبل3 أسابيع- قد رحلت للمرة ثانية. والله حرام, ده راجل كبير ما كانش ينفع يتعمل فيه كده.. حاولت أن أوضح لها وجهة نظر شباب الثورة, فأكدت بعطف مصري لا يضاهي: برضه ما يصحش. أما مروة سالم, التي لم تتجاوز22 عاما, ولم تنزل ميدان التحرير مكتفية بمتابعة المستجدات علي قنوات التليفزيون المصري وقنوات أخري, فقالت: يعني أنا موافقة عشان الشباب, بس بصراحة أنا صعبان عليا إنه مشي بالشكل ده. ثم أضافت تعليقلا ما بين التأثر والسخرية: أنا ما اعرفش غيره, بس أهم حاجة إني في التلات أسابيع دول فهمت حاجات كتير ما كنتش فاهماها. كان نفسي أفهم, والثورة تنجح, ومبارك ما يمشيش بالشكل ده, بس نعمل إيه ما هو برضه إبنه السبب. الجدير بالذكر, ما أكده لي زملاء عاصروا لحظات إعلان تنحي الرئيس السابق في ميدان التحرير, إذ أن ثمة مجموعات من شباب التحرير انخرطوا في بكاء, ليس فقط فرحا وإنما حزنا علي مبارك, مرددين أن ثورتهم لم تكن ضد شخصه, ولكنها ضد نظامه, وأنهم يحبونه ويشعرون بآلامه وقد انكسر. وقد تكرر ذلك علي مدار الأيام القليلة الماضية, عندما ترددت أقاويل عن سقوط الرئيس السابق في غيبوبة منذ صباح الأحد الماضي, وصفتها الصحف بأنها وعكة صحية, مشيرة علي لسان مصادر مقربة من الرئيس السابق, أنه رفض عروضا باستضافته من4 رؤساء عرب, مؤكدا أنه لن يموت إلا علي أرض مصر. وهو ما دفع المدون أحمد عبد الفتاح للإعلان علي تويتربالأمس: لو مبارك مات أنا هضايق.. مبارك مينفعش يموت قبل ما نذله 15 أو20 سنة, هذا في الوقت الذي أكد فيه الروائي إبراهيم عبد المجيد علي الفيس بوك: غريبة الافكار التي تتسرب عن وفاة حسني مبارك اليوم الثلاثاء-, وتكتم الخبر حتي يذاع في وقت متاخر من الليلة. أرجوكم إذا حدث ذلك أن نتوقف عن أي حديث ساخر أو شامت عنه. نتذكر وكلكم- تقريبا كتاب وفنانين أو قريبين من ذلك, هذه النهاية السريعة لرجل كان لايبدو مستجيبا لاي شيئ, وكيف ثقل الامر عليه حين صار لا يملك أي شئ. وأرجوكم لو ظهر ان ذلك صحيح ان نترحم عليه فللموت حرمته وما نحن الابشر فانون. إحنا آسفين يا ريس في الوقت نفسه, تكونت نحو عشر مجموعات علي لفيس بوك, تراوح أعضاؤها بين ألفي عضو, وعشرين عضوا, وكلها تحت عنوان إحنا آسفين يا ريس, أكبر هذه المجموعات أعضاء دعت إلي وقفة سلمية, وحددت المكان في المهندسين, والزمان يوم الجمعة بعد الصلاة مباشرة, مع ارتداء الأسود حدادا علي شهداء الثورة من ضباط و مواطنين, وحدادا علي ماحدث من اهانة للرئيس السابق, علي أن تتخذ الوقفة من ميدان مصطفي محمود مركزا لها, دون التحرك لأي مكان آخر. وفي الوقت الذي اعتقد فيه البعض أن الأخبار التي نقلتها وكالة الأنباء الفرنسية عن صحة الرئيس إنما هي محاولة لكسب التعاطف مع الرئيس, قام البعض الأخر ببث مشاعره العاطفية تعليقا علي موقع الأهرام, واستعانت الجريدة بصورة للرئيس في مستشفاه الألماني, وكتبت ميرو تحت عنوان لسة بنحبك يا ريس: مش كل مصر بتكرهك زي ما إنت فاكر في كتييير بيحبوك و أنا واحدة منهم.. ربنا يشفيك و تقوم بالسلام وإذا كنت غلط في حقنا أنا وكل إللي معايا مسامحينك., ومن جهة أخري, كتب محمد فتح الله تحت عنوان الفرعون الاعظم: لقد من الله علينا ان نري فيه آياته والظلم ظلمات يوم القيامة. بينما لفت المخرج الشاب أمير رمسيس علي الفيس بوك النظر إلي نهاية فيلم إمبراطورية ميم في تشابه قريب مما يحدث الأن, بقوله: هل من المفترض اننا لما نسمع كل الاخبار المروجة عن تدهور صحة مبارك نقول لا خلاص طيب ارجع مثلا ؟ علي طريقة امبراطورية ميم: ماما.. ماما.. الست مني., وهو ما علقت عليه الصحفية المغتربة حنان كمال بقولها: لو مات( مبارك) بقي.. لازم وائل غنيم يموت علشان يعمل معادل موضوعي للحالة العاطفية للشعب., وهو ما دفع زينب لرفض الأمر برمته قائلة: ليه لازم نفكر فيه أصلا؟ مش كفاية30 سنة؟ أنا رأيي نفكر في مصر أحسن اللي كانت في غيبوبة و صحيت, و محتاجة تقوم من السرير و تمشي في نور الشمس بقي., أما الفنان خالد الصاوي فختم الحوار الدائر معلقا: لا تدع أحدا يسرق انتصارك أو يوقف تقدمك.. كافح من أجل حريتك بكل أشكالها, قاوم الظلم الاجتماعي الواقع عليك بقوة, ناضل من أجل كرامتك باستمرار.. ولكن تذكر دائما أن رسالتك تجاه ذاتك لا تكتمل إلا بالقتال من أجل كرامة وحريات الآخرين وإقامة العدل الاجتماعي الشامل لا المنقوص.. وهو ما يجب أن نفعله الآن, في طريقنا نحو مصر الجديدة, متخلصين من أحاسيس الذنب أو الندم, وتحويلها إلي طاقات إيجابية ليس فقط لبناء مصر, وليس الركض وراء مشاعر قد تؤرخ لانتكاسة جديدة.