اعتدت حين ألتقي صديقا من لبنان أن أسأله إلي أين ذهبت الأمور؟.. كان اللقاء في القاهرة قبل يوم واحد من قمة شرم الشيخ التنموية, خصص لبحث دور المجتمع المدني العربي في التنمية من خلال شراكة منضبطة مع الحكومات ورجال الأعمال, وجمع بين باحثين مصريين وآخرين عرب ومنهم لبنانيون. فجاءت إجابة باحثة لبنانية واعدة في مجال البحث الاجتماعي قائلة: لبنان أحواله ليست علي خير, نشعر نحن الجيل الأصغر بإحباط شديد.. لقد عادت الأمور إلي ما كانت عليه قبل2005, نسبة كبيرة من القيادات اللبنانية تذهب إلي دمشق لتلقي الأوامر والترجيحات. كنا نعتقد أن هذه الصيغة انتهت بعد خروج الجيش السوري من لبنان, ولكن كل الشواهد تقول إننا أخطأنا في هذا الاعتقاد.. سوريا مازالت تدير كثيرا من الأشياء إما صراحة وإما مواربة, لقد ضاع حلمنا أو ربما أفقنا من الحلم علي وقع الحقيقة المرة.. ما يحدث الآن هو عكس الذي ناضلنا من أجله. إجابة عفوية وصادمة في الآن نفسه, ولعل البعض يراها تلخص الوضع اللبناني من وجهة نظر لنقل إنها قريبة من فريق14 آذار/مارس بقيادة سعد الحريري وحلفائه, مقابل وجهة نظر أخري تري أن سوريا حمت لبنان في السابق وضحت من أجله بخيرة أبنائها وبكثير من مواردها المحدودة, حتي يستمر لبنان وطنا للتعايش بين مختلفين, وأن ما تفعله الآن هو نوع من الحماية المحمودة وثيقة الصلة بقناعة تاريخية لا يمكن لقيادات سوريا أن تتخلي عنها, إذ لبنان هو خاصرة سوريا ولا مجال للتخلي عنه أو التعامل معه من موقع ند مثل التعامل مع أي بلد مستقل يكون الاقتراب منه وفقا للمصالح وليس للقناعات الأيديولوجية الذاتية. الإجابة السابقة وأيا كان الرأي تثير إشكالية الدور السوري في لبنان, كما تثير أيضا إشكالية القيادات السياسية اللبنانية التي ترتبط بسوريا بشكل أو بآخر, وتضع مصيرها الذاتي ومصير بلدها أيضا بيد السياسة السورية, بغض النظر عن أي شيء آخر. والمثال البارز هنا يتضح في حالة التغير الحاد لموقف وليد جنبلاط أخيرا من دعم فريق14 آذار إلي مساندة كاملة لحزب الله وحلفائه, وربط هذا الموقف بأنه رد علي تعطيل وإفشال التفاهم السوري السعودي, الذي يثار بشأنه لغط كثير من حيث مضمونه وبنوده, ومن التزم به ومن لم يلتزم. وهو التغير الذي أدي إلي إعادة صياغة المعادلات النيابية الخاصة بترشيح رئيس حكومة جديد, وأحبط مسعي قوي14 آذار في أن تعيد ترشيح الحريري مرة أخري رئيسا للحكومة المقبلة. ويمكن تفسير هذا التغير ببساطة شديدة في تخوف وليد جنبلاط من ردة فعل حزب الله عليه شخصيا وعلي طائفته, إن هو أقدم علي تأييد سعد الحريري كمرشح لرئاسة حكومة جديدة, في وقت يعتبر حزب الله أن من يؤيد هذا الترشيح بمثابة خائن للمقاومة ودمه مباح علي أي وجه كان. إذا جزء من إشكالية سوريا في لبنان مرتبط أساسا بنوعية معينة من القيادات اللبنانية نفسها, التي تتقلب يسارا حينا ويمينا حينا آخر ومرتبط بحسابات سوريا الإقليمية وثيقة الصلة بالمتغير الجغرافي والتي تعمل وفق مبدأ حماية سوريا من التورط في مواجهة مباشرة مع العدو التاريخي للأمة العربية, وإدارة هذه المواجهة في ساحة أخري هي لبنان, مع ربط هذه الإدارة بشعارات المقاومة ورفض الانصياع للمطالب الأمريكية والصهيونية. بيد أن نظرة فاحصة قد تكشف عن مردود عكسي تماما. فكلنا يعلم أن إدارة الرئيس الأمريكي بوش السابقة كانت قد رفعت شعار الفوضي الخلاقة كسبيل لتغيير معالم وتوازنات القوي في مجمل الشرق الأوسط, واعتبرت علي لسان وزيرة الخارجية آنذاك كوندوليزا رايس, أن العدوان الإسرائيلي علي لبنان صيف2006 هو أحد مداخل تغيير الشرق الأوسط ككل, وأحد تجليات الفوضي الخلاقة التي من شأنها أن تقلب الأوضاع لبعض الوقت, وربما أيضا تزيد من حدة توترها, ولكنها حتما ستقود إلي تغييرات كبري تراهن الولاياتالمتحدة علي أن تكون تغييرات لمصلحة إسرائيل ولمصلحة الاستراتيجية الأمريكية علي المدي الطويل. وكلنا يعلم أيضا أن العدوان الإسرائيلي علي لبنان صيف2006, وإن لم يحقق أهدافه كلها, خاصة القضاء علي قوة حزب الله, لكنه استطاع أن يحجم هذه القوة, وأن يبعدها تماما عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية بمسافات تتراوح بين15 كم و40 كم, وأن يدفع بالحزب لتفريغ فائض قوته العسكرية في الشأن اللبناني الداخلي وليس في المواجهة مع إسرائيل نفسها. وهو ما رأيناه بالفعل في مايو2008, حين نزلت قوات الحزب إلي قلب بيروت والجبل والشوف, وسيطرت علي مواقع مهمة وأرسلت رسالة قوية لكل ساسة لبنان والعالم العربي بأسره, بأن القوة العسكرية للحزب باتت لاعبا سياسيا في الشأن الداخلي لابد من وضعها في الاعتبار. والأمر علي هذا النحو يعني ببساطة الضرب بعرض الحائط بأسس العملية السياسية والدستورية اللبنانية, ومن ثم ممارسة فوضي خلاقة كالتي نادت بها رايس, وإن علي نطاق ضيق ومحدود بلبنان كمرحلة أولي, ثم تأتي بعد ذلك مراحل أخري في هذه البقعة أو تلك. وهو ما نري تطبيقاته, وإن بمعايير مختلفة في تونس والجزائر والعراق واليمن والسودان وغيرها. والصحيح, القول إن اتفاق الدوحة حاول أن يلتف علي هذه المضامين من خلال رفع شعارات التوافق وإعادة الروح لاتفاق الطائف, وإن بصيغة معدلة وإحياء العملية السياسية والالتزام بشكليات الدستور, وهو ما استمر لنحو عام ونصف العام تقريبا, علي صعيد الشكل وليس علي صعيد المضمون, ولأن اتفاق الدوحة وببساطة شديدة لم يحل معضلة سلاح الحزب, ولم يحم الدستور اللبناني ولا مبادئ الديمقراطية التوافقية, فيكون طبيعيا أن تعود الأمور إلي نقطة الصفر, ومؤكدة أن أي عملية سياسية لن تكون طبيعية مادام هناك سلاح بيد طرف في مواجهة أطراف ذوي أياد خاوية. فالأمر بات معلقا أساسا بتوازن قوي وليس مبادئ دستور. والوجه الأخطر هنا أن القوة العسكرية مرتبطة بطائفة معينة أو بالجزء الأكبر منها, في حين تحرم الطوائف الأخري من السلاح, والسؤال هنا: إلي أي مدي يمكن أن يستمر هذا الخلل المادي الكبير؟ هذه الحالة التي يعيشها لبنان هي نموذج حي لفوضي ليست خلاقة, وإنما مدمرة للبنان ولجوار لبنان أيضا. فلبنان الذي استمر منذ تبلوره في عام1943 كدولة ذات صيغة فريدة في التوازن الطائفي والسياسي, أصبح الآن مهددا بأن يكون صيغة بلا توازن سياسي أو طائفي. وبالقطع كل من يرسخ هذه الصيغة ويوظفها من أجل السيطرة علي لبنان الدولة بكل ما فيها وما عليها, يسهم في تحقيق نبوءة كوندوليزا رايس حتي وإن ادعي أنه يحاربها ويقف لها بالمرصاد. لقد اعتادت سوريا أن تتعامل مع لبنان باعتباره مجرد حديقة خلفية, كما اعتادت أن توجه سياساته بما يتناسب مع مصالحها ورؤيتها الذاتية. ولكم راهن كثيرون علي أن سوريا قد تعلمت الدرس بعد اغتيال رفيق الحريري في فبراير2005, وبعد أن اضطرت إلي سحب جيشها من الأراضي اللبنانية. لكنه رهان لم يصمد طويلا. إن التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل بشأن رفع اليد عن الوساطة مع سوريا من أجل لبنان, مصحوبا بالحديث عن خطورة الوضع ونوايا تقسيم وحروب ومواجهات داخلية, لهو نموذج آخر لرهان لم يصمد عن تغيير في الأسلوب السوري وتحول عقلاني في أداء حلفائها. إذ اعتادت دمشق أن تقول كلاما فضفاضا يسمح بتأويلات مختلفة, ويسمح بالشيء ونقيضه, وبما يؤدي إلي تسرب الحلول السورية مدعومة بتأييد عربي أو سعودي. وما يخرج عن المصادر القريبة من السياسة السعودية يدرك أن التفاهم المشترك من أجل لبنان كان حزمة من الالتزامات المتبادلة بين الأطراف اللبنانية ولم يكن أبدا, كما تروج المصادر السورية ومصادر حلفائها في لبنان, تفاهما لفرض معادلة جديدة تحقق لسوريا وحلفائها كل ما يريدون دون ثمن وتغمط حقوق الطوائف الأخري, ولم يكن أبدا مباركة سعودية لهيمنة سورية علي الشأن اللبناني. والظاهر أن الرسالة السعودية لم تجد بعد آذانا واعية لا في دمشق ولا في الضاحية ببيروت. وأبواب الفوضي تبدو مشرعة لا تجد من يغلقها.