معدلات النضج أصبحت أكثر سرعة في الزمن المعاصر, وهي بالطبع ظاهرة إيجابية, فنضج النبات والحيوان والإنسان, وكل مظاهر الطبيعة الحية, أفضل من عدم النضج لكنها تصبح مشكلة عندما يكون النضج في مظاهر محدودة دون اكتساب المظاهر والخواص الضمنية لهذا النضج, فيصبح النضج شكليا ظاهريا, دون أن يصل إلي قلب وجوهر المضمون, والذي يترشح للاستمرار والدوام والأهم التطور! لذا كثيرا ما يشتكي أن الخضار ليس كما كان, واللحوم فقدت نكهتها, وأيضا فقد الإنسان الشعور الحقيقي بلذة الحياة! عوامل النضج ارتبطت بالثورات العلمية المتعاقبة التي غذت هذه العوامل ببحوث متتالية أفادت البشرية, لكنها أيضا تحمل مخاطر تحتاج إلي معارف أخري, لتداركها للحفاظ علي الأصل, وللحفاظ عليه يتطلب ذلك معارف جديدة علمية وفكرية, فالمعارف الأصولية ليست بقادرة علي تلك المهمة في الحفاظ علي الأصل, فهو يحتاج إلي الجديد لا إلي القديم, وأصل الأشياء هي المعاني الأساسية في الحياة التي لا تتغير, ولكن تفعيلها يحتاج تعديلات مستمرة, والدينامية الفكرية تستمد فاعليتها من فتح آفاق المعرفة لتستمد هذه المعاني حقيقتها في الزمن والمكان اللذين يحكمان وجودها! عندما تابعت أحداث الانتفاضة التونسية وما أدت إليه, شاهدت مظاهر للنضج والوعي الإنساني مدهشة, فالشعب التونسي اتخذ قرارا جماعيا دون اتفاق, ودون تنظيم, ودون جهات خارجية ولامؤامرات من أي نوع, إلا النضج الشعبي الواعي بحقيقة الوضع المأزوم, الذي يهدد سلامته الاجتماعية, وقرر التغيير وأعلن قراره بأخذ زمام الأمور في يده, ليصلح من شأنه مشخصا أسباب تأخره وعجزه الداخلي وتوجه إليها مباشرة ولم يحدث في التاريخ مثل هذا الإجماع الثوري إلا فيما ندر, وبعدها تحول مسار التاريخ وشاء الشعب التونسي أن يعلن بداية عصر الشعوب العربية, لا أولي الأمر, ولا القلة!طبيعة العصر الحالي مكنت الإنسان من اختراق الحواجز, وفتحت أمامه مخزن التجارب البشرية علي مصراعيه, فلم يعد يستفيد فقط من العلوم الطبيعية والتقنية, لكن أيضا من العلوم الاجتماعية والثقافية والعادات اليومية, ومن الطبيعي أن يطالب بحقوقه في جزء من المجتمع الكلي الذي يعيش فيه, ولكن عليه أيضا أن يعرف واجباته لتطوير هذا الجزء ليلحق بالكل المتطور الحديث القادر علي توفير الحقوق والاحتياجات! وروعة الانتفاضة التونسية أنها انتفاضة شعب من المثقفين الواعين لما لهم وما عليهم, أبرز ما أثار إعجابي دور المرأة التونسية التي ظهرت صلابتها وقوتها الشخصية وسط جموع الثائرين, وأحيانا قائدة لهم متعلقة علي سور إحدي النوافذ في الفضاء! فهي مرأة لم تعد تنتظر ما يقرره الرجال لرسم خريطة حياتها, ولا أعتقد أيضا أنها تفكر في أن تستقل برسم هذه الخريطة, لكنها شريك عضوي في تشكيلها, وأعتقد أن حواء لديها من الإمكانات النفسية والحدسية المكمل للقوي العقلانية, ما يفيد المجتمع في رسم نهضة اجتماعية متعددة الجوانب, ولم تعد طموحاتها تقتصر علي التأثير النفسي والعقلي علي كيان( شهريار) ليتحول إلي إنسان راق بعد أن كان وحشا كاسرا! الأمل الكبير في المرأة التونسية الواعية يرجع في اعتقادي لأن المرأة الأقدر علي فهم أهمية بناء الكيان الاجتماعي علي أسس قوية, مهما كانت التحديات, فهي صاحبة أول بناء اجتماعي عرفته البشرية وهو الأسرة, فالمرأة الذكية تعرف الأسس السليمة والتدابير الاقتصادية اللازمة لتسيير الحياة لمجموع الأسرة, والآن حان دورها مع شريكها في المجتمع, لبناء مجتمع عصري, يقوم علي التوافق العام, ويشكل مؤسسات مستقلة خاضعة للرقابة والمحاسبة, فأهم ما يواجه المجتمع التونسي إعادة بناء الكيان الاجتماعي, فالفرصة التاريخية سمحت للتونسيين بالحرية في بناء الكيان, أفضل من أي وقت مضي, لأنها تقوم علي إرادة شعبية فعالة, ليست عفوية أو مؤقتة, لكنها فعالة لأنها معرفية تتشكل من الوعي وفهم الحقائق, وتهدف إلي اكتساب الخبرات والمهارات لتطوير الذات, فهناك إيمان عام بأن مسيرة المجتمع خاطئة, ولا تصل بهم إلي النهضة التي ترفع من مستوي ونوعية حياتهم العامة, وهذا الهدف لا يتحقق بتغيير واجهة, أو شخص, أو مجموعة أشخاص, ولو كان منهم رئيس الجمهورية! ولكن بتغيير طبيعة الكيان التي تتطلب إعادة تشكيل بنية هذا الكيان, الذي يتكون منهم ذاتهم, وفيه من الخبرات والنخب القادرة علي قيادة هذه الفرصة التاريخية, وهذه المعرفة الأساسية بإعادة بناء الكيان باستقلال لم يتوافر لشعب عظيم كالعراقيين, فلم يتولوا زمام أمورهم بأيديهم دون تدخلات أجنبية سلبية, وحسب المعايير الواقعية والعلمية والمؤسساتية, هذه المعرفة المستقلة المطلوبة هي الإيمان الحقيقي المبرر, وفق تفسير أفلاطون!. الحرية في إعادة بناء الكيان تتوافر لتونس, وبخبرات المرأة الذكية, لا يقوم بناء علي الاستئصال والإلغاء, ولكن علي دراسة المكونات الاجتماعية القائمة, وإعادة بنائها وفق رؤية فكرية, وتفضيلات منهجية, تقبل بعض الأفكار والتطبيقات وترفض الآخر, وتؤجل غيرها حتي تتاح الفرصة لتطبيقها, لكنها لا تلغي مكونات اجتماعية ولا تيارات فكرية, وتتعالي عن الانتقام, وتصبر علي البناء حتي تثمر التجربة الاجتماعية التي كانت بإرادة عامة وحظيت بمساندة الرأي العام, واستطاعت أن تحقق نهضة بالتراكم لا بالفورات السريعة! وأعتقد أن خبرات المرأة في الاهتمام بالرأي العام في أمورها الحياتية الشخصية قد يفيد في تلك الفرصة التاريخية, فمشكلة النظام السابق تتركز في استخفافه بالرأي العام, فاكتفي علي ما يبدو بإشادات خارجية عن النمو الاقتصادي دون حرص منه علي أن يلمس الرأي العام هذا النمو, الذي وصفه شيراك بالمعجزة الاقتصادية, فشاع عند الرأي العام أن خير البلاد ليس لأهلها ولكن لزمرة حاكمة تسعي للرضا الخارجي لا الداخلي الذي قامت في الأصل من أجل خدمته! ففقد النظام أعز ما يملك وهو المصداقية! المرأة الذكية تدرك جيدا أن المصداقية هي القيمة المعنوية لكل إنسان من الجاهل البسيط إلي الزعيم العظيم, فالمصداقية جعلت الرأي العام يتمسك بالزعيم الخالد جمال عبدالناصر برغم الهزيمة, وانعدامها جعلته يطرد صاحب المعجزة الاقتصادية المزعومة! ولأنني للأسف لم أع المرحلة الناصرية عمليا, لكن عندما أطلع علي قواعد وأسس التجربة العظيمة بكل ما في المعني من عظمة واقتدار, أجد أن الاهتمام بالتوعية كان من أبرز علاماتها, فكانت هناك نوعية شعبية تصل إلي القري والنجوع لعامة الشعب, ومناقشات علمية وثقافية في كل المؤسسات والمنابر, ومنها خطب الزعيم الراحل نفسه, التي اندهش للشروح والتفاصيل التي كان يحرص علي تأكيدها, وشرح أبعادها, والتحديات الداخلية والخارجية, فهي تجربة عربية معاصرة يستطيع الأخوة في تونس الاستعانة بإيجابياتها, ويتفادون سلبياتها المعروفة, لا بإعادة التجربة ولكن بفهم حكمتها في أن فائدة أي نهضة إن لم تصل للشعب فهي سدي, وإن لم تحظ بمساندة الشعب فلن تستمر, لذا فالتوعية بأهمية النهضة لكل فرد ودوره في تحقيقها أمر أولي حتي يستمر الرأي العام داعما لمسيرة النهضة الطويلة, وأعتقد أنه ليس هناك أقدر من المرأة الذكية في نشر ثقافة الإصلاح, لخبرتها وغريزتها التربوية, حتي تصبح ثقافة الإصلاح خبرة منتظمة في الكيان الاجتماعي, والتي لابد أن تبدأ من مقولة: إعرف نفسك بنفسك! ليس العرب فقط من يراقبون البداية الجديدة في تونس, لكن العالم كله ينتظر نتائج هذه الانتفاضة الثورية النادرة ليري إذا كان العرب حقا لعبهم حرب, وحربهم لعب! كما يشيع أعداءهم, أم يستحقون التحية والاحترام كما يعتقد أوباما الرئيس الأمريكي في الشعب التونسي, والمسيرة الجديدة. تحمل الكثير من الأمل, وأشم فيها عطر المرأة الذكية في تونس التي تحمي النهضة كما تحمي أبناءها, بإعادة البناء, وبالتراكم المعرفي والإنتاجي, وبالتوعية والإرشاد, والمتابعة الذكية, وفتح الآفاق علي العالم كله, عندما يحدث ذلك لن يعكس عطر التونسية جمال شخصيتها, بل جمال الثورة الشابية, نسبة لأبي القاسم الشابي, الذي أخيرا أدركوا قوله: إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر!.