بعدما فرغ أحد أصدقائي من قراءة مقالاتي الماضية عن عقل الطبقة الوسطي انفرد بي قائلا أنت تبدو متشائما إلي حد كبير, فمن يقرأ ما حدث لعقل الطبقة الوسطي من ابتداء الحقبة الساداتية إلي اليوم, لابد أن يشعر بالحزن لما حدث, والخوف من المستقبل الذي تبدو نذره مخيفة قلت متنهدا في نوع من الأسي وأنا أيضا أشعر بالخوف, بل أحيانا أشعر بالفزع, خصوصا عندما أزداد تعمقا في تحليل الأمور والأحوال التي نعيشها, والأوضاع التي أراها بعيني, حين أزور ما بقي علي قيد الحياة من أسرتي في أحد أحياء المحلة الكبري الشعبية, ولا أسمع إلا أحاديث الشكوي من قسوة الحياة التي تبدو مستحيلة في أحيان كثيرة, لدي أسر أعرف أنها تعاني من قسوة الفقر المدقع الذي هو تحت ما تحت خط الفقر بكثير. وأن بعض من أعرفهم من أقاربي الفقراء لا يضمن العلاج الصحي السليم, ولا يجد الدواء المتاح في كل حالات المرض, ولا المدرسة التي تتولي التعليم السليم, وأن أغلب من في المدارس من صغار العائلة يعتمدون علي الدروس الخصوصية التي هي عبء علي الأسرة المصرية المسكينه في المدن الصغيرة والكبيرة ولا أعرف سكنا لائقا أو حتي إنسانيا للكثيرين, والأسعار نار الله الموقدة التي تلتهم أي دخل, وأذكر حديثا أدمي قلبي لشاب من أقربائي يعمل مدرسا في إحدي القري المجاورة لمدينة المحلة الكبري, جلس معي وقال لي احسب معي يا عمي مرتبي ووزعه علي ضرورات الحياة الضرورية لكي تتأكد أنه لا يمكن أن يكفيني لعشرة أيام ولم أملك سوي الشعور بالحزن الغامر علي هذا الشاب المسكين الذي عليه أن يدفع إيجارا لمسكن بالغ التواضع, يلتهم أغلب مرتبه, وعليه وزوجه تلبية احتياجات ابنته وابنه الصغيرين اللذين لا يجدان لهما, أحيانا, ثمن الدواء في أي حال صعب من أحوال المرض, وذلك بعد أن تلتهم نفقات الطعام ما بقي من مرتبه ومرتب زوجه المدرسة مثله الأسرة كلها, مع هذا الوضع, لا تعرف رفاهية اللحم إلا كل أسبوعين وفي أضيق الحدود ويقوم قريبي وزوجته بكل ما يستطيعان لكي يحصلا علي دخل خارجي بإعطاء دروس خصوصية لأبناء عائلات فقيرة مثلهما, يعرفان أنها تعاني مثل ما يعانيان وربما أكثر ولهذا لم يكن من الغريب أن أسمع من الشباب غير المتزوج أن الأولوية عندهم هي الفرار من هذا البلد الذي لا يجد فيه الإنسان قوتا ولا مأوي ولا علاجا ولا تعليما ولا ضمانا لأي مستقبل؟! وبعد أن عدت إلي القاهرة, أصابني الحزن والاكتئاب, شأن كل مرة أري فيها ما يذكرني ببؤس الفقراء من أهلي الذين هم عينة دالة علي ما يزيد علي نصف الشعب المصري, وأسأل نفسي وماذا عن الضمير العقل في هذا الكون المصري المختل, فأجد نفسي أكرر أبيات أمل دنقل: أصبح العقل مغتربا يتسول, يقذفه صبية بالحجارة, يوقفه الجند عند الحدود, وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني.. وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن. صحيح أن عقل أبناء الطبقة الوسطي لم يصبه الجنون بعد, لكنه وهذا هو المؤكد, اختل, وانقسم علي نفسه, ما بين أقلية انتهازية تريد أن تتسلق إلي الطبقة الرأسمالية الجديدة, في النزوع المتوحش المستفز لكثير من أبنائها, وأغلبية تعاني الأزمة الاقتصادية الحادة, فتخشي الهبوط إلي ما تحت خط الفقر, وتبقي مرعوبة من فكرة عدم إمكان حلول مستقبل واعد, خصوصا أنها لا تجد التعليم المناسب والسليم لأبنائها, ولا الرعاية الصحية اللازمة, ولا المسكن المتاح أو العمل المجزي, فيبقي عقل أكثرية شرائح الطبقة الوسطي المتدنية الدخل علي حاله من الخوف من المستقبل, بموقفه السلبي من كل شيء, يشدهفي الأغلبالخوف من الجوع وحلم العدل الاجتماعي إلي جماعات الإسلام السياسي التي نفذت إلي عقل الطبقة الوسطي, خصوصا بعد أن قمع هذه الطبقة الاستبداد السياسي لحزب يتحدث باسم جماهير لا يعرفها, ولا يشعر بما تشعر به في واقع قاس وضنين, وجهالة تتزايد يوما بعد يوم بسبب قصور التعليم, وضيق حال خانق لا يجد متنفسه إلا فيمن يتسللون إلي عقول الطبقة الوسطي بوعود مخايلة عن خلافة إسلامية لابد من استعادتها وبعثها من جديد, وعن دولة دينية تسترجع عدل عمر, وزهد الصحابة, واشتراكية أبي ذر الغفاري الذي ظل يحارب الفقر وينصر الفقراء, فينحاز مظلومو الطبقة الوسطي إلي المنادين بأن الإسلام هو الحل, أولئك الذين يأتي في ركابهم فقهاء ما أنزل الله بهم من سلطان, وأصحاب فتوي هي الجهل بعينه, ووعاظ ينشرون الخرافة ويعادون العلم, فتنشر نزعة تديين معادية للعقل, مستريبة في الآخر, متعالية علي أصحاب الديانات الأخري, خصوصا الأقباط, فالدين عند الله الإسلام, والأقباط أهل ذمة, ليس لهم ما للمسلمين الأقرب عند الله والله بريء من هؤلاء الذين أدوا إلي احتقان طائفي, ووضعوا مصر علي فوهة بركان لا يعلم إلا الله متي ينفجر, وندعو الله, والعقلاء معي, ألا ينفجر, لأنه لن يبقي ولن يذر. ولذلك أظل متشائما ما دمت أري الفقراء يزدادون فقرا والأغنياء يزدادون غني, وألمس وأري وأسمع ما يزيدني خوفا من تزايد معاناة الفقراء الذين ولدت بينهم, ولا أزال أنتمي إليهم, وأستطيع أن أتخيل ماذا يشعر به هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يأكلوا اللحم إلا في المناسبات, ومشاعر الموظف الذي يشتري حلة واحدة في السنة علي الأكثر, والمدرس الذي يستجدي الدروس مضطرا, والمواطنين المطحونين الذين لابد أن يملأهم الحزن الغاضب عندما يقرأون ويسمعون عن ممثلة إغراء تتقاضي في تمثيل فيلم واحد أكثر من عشرة ملايين جنيه مؤكدا أن هؤلاء لن يكرروا ما أسماه السادات انتفاضة الحرامية فقد أصبحت قبضة الأمن أكثر حكمة, والحكومة أكثر مراوغة, وصحيح أن وسائل الإعلام تقوم بدور التنفيث, وهذا هو الفارق الأساسي بيننا وتونس ولكن من الذي يضمن بقاء صمت المحرومين إلي الأبد؟ واستكانة شعب قرابة نصفه يعيش تحت خط الفقر ولهذا أزداد تشاؤما كل يوم, وأقول لنفسي لا حل إلا بوجود ائتلاف وطني جديد, يجمع بين الأحزاب المدنية التي عليها إصلاح المعوج من تكويناتها الداخلية, والعقلاء من الحكومة وأعني بالعقلاء الذين تخلص قلوبهم في الحب لهذا الوطن, وأضم إليهم رجال الأعمال الوطنيين والمثقفين الشرفاء الذين لا يزالون يتحملون ما يحدث لهم بسبب ما يكتبون عن ضرورة قيام دولة مدنية حديثة بكل شروطها ولوازمها الحتمية التي تقوم علي انتخابات نزيهة وتبادل للسلطة وعدالة اجتماعية وديمقراطية حقيقية ولا أزال أري أن هذا هو الحل الوحيد للمأزق الذي يمر به هذا الوطن, والحلم الذي أرجو تحققه قبل أن أموت, فلم يعد في العمر مثل الذي مضي وإلي أن أري بشارة حقيقية أو علامة قوية لحدوث ذلك, سأظل علي التشاؤم الذي أنطوي عليه ولكني لن أتوقف عن الحلم, فمصر التي أعرفها, وتبقي في خاطرنا ودمانا, نحن الذين نعرف قدرها وتاريخها وإمكاناتها, قادرة علي أن تفاجئنا بما يحيل الحلم إلي واقع, والكابوس الجاثم علي الصدور إلي وعد بمستقبل مضيء لا نهاية لإمكاناته الخلاقة ولذلك سأظل, رغم تشاؤمي, ألح علي ضرورة الائتلاف الوطني, وتحالف جميع العقلاء من أبناء الوطن للتآزر والتعاضد, بحثا عن الوسائل اللازمة لتحقيق المستقبل الواعد..