بعد روايته «تغريدة البجعة»، والتى لاقت نجاحا ورواجا كبيرين، يقدم لنا الروائى مكاوى سعيد مغامرة كتابية جديدة، ربما لا تقل أهمية عن روايته السابقة، حيث يطوف بقارئه على العديد من الحكايات والوجوه والتركيبات النفسية المتباينة، والظروف الاقتصادية والمادية لمثقفى وفنانى وكتاب منطقة وسط البلد، التى تعد المكان الأثير لهذه الفئة من النخبة المثقفة وأيضا الراغبين فى الاحتكاك بهم والدخول إلى عوالمهم السحرية، إذ تصبح هذه المنطقة بمرتاديها أشبه بالنداهة التى تغوى الموهوبين وغير الموهوبين على حد سواء. هناك من نراه يسقط فى الطريق ويتناساه الجميع، وهناك من يصيب هدفه ومبتغاه ويصبح علما فى مجاله، وأيضا سنجد من يأخذ بعض القشور السطحية لسلوكيات المثقف وفوضويته دون أن يصيب جوهر الثقافة، ومن يصيبه الجنون، ومن يتحول إلى دجال من دجالى الثقافة فى وسط البلد. حالات شديدة الإنسانية والدلالة يقدمها مكاوى - بحب وتعاطف شديدين - فى كتابه «مقتنيات وسط البلد» والصادر مؤخرا عن دار الشروق، حالات تحمل العديد من المتناقضات، تدفع القارئ للتفكير والضحك والبكاء، إنها أشبه بكوميديا سوداء يقدمها المؤلف بلغة رشيقة، سلسة، وآسرة. ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين: أولهما «كتاب البشر»، الذى يثير، ابتداء، مشكلا جوهريا يتعلق بالتصنيف النوعى، فالمؤلف لم يشأ أن يضع على الكتاب تصنيفا نوعيا بعينه (قصص قصيرة مثلا) يحبسه داخل إطار محدد من الأنواع الأدبية السائدة، بل تركه مفتوحا دونما ذلك التحديد الصارم، ليبعده عن سطوة النوع، وليظل النص حرا، وذلك رغم اللغة الأدبية الواضحة التى يستخدمها. فالكاتب آثر أن يذيل العنوان الرئيسى بعنوان فرعى هو «وجوه وحكايات من وسط القاهرة» وهو تذييل منفتح ومخاتل، ورغم ذلك فإن أدبية النص واضحة لا تخطئها عين، عبر وحدة الراوى، وكذا وحدة المكان الذى أطره السارد منذ البدء بمنطقة وسط القاهرة بما لها من طقوس وعوالم وممارسات وشخوص يشتركون مع بعضهم البعض فى الهموم والأحلام وربما التهميش أيضا، فالمثقفون يغدون فئة من الفئات المهمشة. ثمة مشكل آخر يثيره هذا الكتاب يتعلق بالحدود ما بين الحقيقى والمتخيل، فالكاتب ينطلق من أحداث تبدو حقيقية ووقعت معه وأمامه، من شخوص حقيقية فى الواقع، لينطلق بعد ذلك إلى إعمال الخيال مضيفا إلى هذه الشخصيات والأحداث، فهذه النصوص ليست كاميرا سجلت أحداثاً وتقدمها لنا بشكل محايد (رغم أن الكاميرا ليست دائما محايدة) ولكنها تقدم لنا عبر راو رئيسى يقدم رؤيته لما حدث، بل وقام بعملية من الانتقاء للأحداث والشخصيات التى يكتب عنها، فإذا كنت قارئا تهوى التلصص فمن الممكن أن تصل إلى الأسماء الحقيقية لبعض الأشخاص ولكنها ستظل قراءة منقوصة، أما إذا رغبت فى قراءة أكثر عمقا فهناك أكثر من مستوى من مستويات القراءة، لعل أهمها محاولة فهم أثر التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الإنسان الفرد، هذه التحولات التى سنجدها تطل علينا بقسوة من بين سطور كتاب البشر. يقدم القسم الأول حوالى أربعين شخصية، ينتمون إلى مرجعيات طبقية وأيديولوجية متباينة، يجمعهم وسط البلد كفضاء مكانى تدور فيه معظم الأحداث المروية، لنرى تحولات هذه الشخوص عبر حوالى أربعين سنة منذ نهاية الستينيات وحتى لحظتنا الراهنة، بما شهدته هذه الفترة من تحولات دراماتيكية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، تتمثل - سياسيا - فى هزيمة وانكسار السابع والستين، ثم رحيل عبدالناصر، كشخص وعصر، ومجىء السادات بمرحلة سياسية جديدة، ثم زيارة إسرائيل وكامب ديفيد التى تمثل نقطة فارقة فى التاريخ السياسى المصرى،وتتمثل - اقتصاديا - فى التحول من النمط الاشتراكى ومن ثم الأيديولوجيا اليسارية إلى عصر الانفتاح واقتصاديات السوق وما يحركهما من الأيديولوجيا الليبرالية، وعلى المستوى الاجتماعى فقد حدث تحول كبير من سيطرة وحاكمية الطبقة المتوسطة نحو تفكيك هذه الطبقة كليا وصولا إلى حالة من الاستقطابات الحادة بين الفقر المدقع والثراء الفاحش. هذه التحولات لن تجدها فى مقتنيات وسط البلد بشكل واضح، بل لن تجد لها أى أثر إن توقفت فى قراءة هذه الحكايات، المسلية والممتعة، عند مستوى البنية السطحية للحكاية، فمكاوى سعيد أكثر خبثا من أن يضعك، هكذا مباشرة، أمام العوامل الفاعلة فى سقوط الشخصيات أو جنونها أو انسحابها وانعزالها، إذ ينزع نحو دفنها فى طيات الحكاية كى تصل إليها بعد الانتهاء من القراءة وبعد جهد فى النبش والتنقيب، ولكنها فى جميع الأحوال تظل الأكثر فاعلية فى تحديد مصائر الشخصيات مع عدم إغفال أن هناك عوامل ذاتية داخل كل شخص تساهم فى دفعه نحو مصيره. هناك نمط من الشخصيات، دفعته هذه التحولات إلى محاولة مسايرة الموضة والتلون كالحرباء حسب كل نظام سياسى، وهذه الشخصيات تسقط سقوطا رمزيا وأخلاقيا مثل «مناضل الكابتشينو» الذى بدأ فى طرح نفسه كمناضل مناصر للقضية الفلسطينية بالكثير من الشعارات التى يطلقها من على طاولته فى المقهى، ثم تحول إلى أحد كبار المروجين للسلام بل ويقوم بتحليل أى اعتداء إسرائيلى على فلسطين أو لبنان لصالح الطرف الآخر بعد أن أصبح نجما فضائيا. سنجد شخصية مشابهة لهذه فى حكاية «تليفون من الضفة» فبعد أن كان بطلها يباهى دائما بفقره (باعتبار الفقر موضة المثقفين ودليلاً على شرفهم) وكانت هذه حيلته فى اصطياد زميلاته والاستيلاء على أموالهن، فإذا بهذا البطل يتحول مع حقبة العولمة إلى وكيل لإحدى الشركات متعددة الجنسيات، وأيضا يقوم بالنصب على أصدقائه القدامى تحت يافطتها. وهناك أيضا المثقف الصعلوك «رجل اللاءات الثلاث» وهى لا للعمل...لا للزواج... لا للسفر للبلاد العربية، فإذا به يقابل طبيبة تستعد للسفر للسعودية وتحتاج إلى «محرم» فينصب شباكه حولها ويتزوجها ليسافر معها ويعمل هناك مدرسا للأجانب، ولكن بعد أن يكون قد أفسد «أكمل» الشاب الساذج الذى أغوته نداهة وسط البلد وشعارات أستاذه الزائفة. هذه بعض من الشخصيات التى سقطت رمزيا بعد أن فقدت البوصلة والاتجاه؛ طمعا فى التربح السريع من وراء تحولات ليست بناء على مراجعة فكرية أو نقد حقيقى للذات ومواجهتها بعيوبها، بقدر ما هى نتيجة نزعات براجماتية ضيقة. ثمة نمط آخر من الشخصيات وهى التى لم تستطع أن تفك شفرة المرحلة التى تعيش فيها وأن تعى قوانينها الحاكمة، أو استطاعت أن تفك شفرتها وتعى قوانينها ولكنها أبت أن تنساق وراءها، وظلت قابضة على مبادئها وأفكارها رغم عواصف التغيير السريعة والجذرية، فبدوا كأنهم كائنات حفرية منقرضة ما اضطرهم إلى الانسحاب نحو قوقعاتهم الخاصة، وذلك على النحو الذى نراه فى حكاية «عندما قال له الزملاء فى الخلية: الله يخرب بيتك» حيث عم ابراهيم الذى كان منضما إلى إحدى المنظمات الشيوعية السرية، ثم حكم عليه بالسجن، وبعد خروجه وجد العالم قد تغير من حوله، فآثر أن يغيّب ذاته فى نزوات نسائية وهمية. ونراه أيضا فى «فن إهداء المحفظة» فالفنانة العجوز التى «اتسقت مع نفسها حتى النهاية» فانعزلت داخل شقتها، بعد أن خفتت شهرتها. ولن يختلف الأمر كثيرا مع علال السورى - فى حكاية «أوركيس مكسيولا» - الذى افتتح مقهى فى مصر أيام الوحدة المصرية السورية، هذه الوحدة التى سرعان ما انهارت كمشروع سياسى فانهار علال وجوديا، وظل قابعا داخل مقهاه الذى يمثل بالنسبة له ذلك الحلم المضطهد والفردوس المفقود. سنصادف نمطا ثالثا من البشر لم يساير التيارات السائدة، وأيضا لم ينسحب، بل اختط لنفسه مسارا خاصا، مسار الجنون والتمرد العنيف على القوانين الاجتماعية السائدة، ومعظم هذه الشخصيات من النساء، مثل «السمراء التى تنتسب من بعيد لأسرة يسارية كان لها دور كبير فى ثورة يوليو» والتى أحبت وتزوجت من شاب فلسطينى يدّعى النضال، ثم يتحول إلى مشروع السلام ويصدر مجلة بالاسم نفسه، ثم يفشل فى كل مشاريعة الفنية والثقافية، انسحبت السمراء لفترة من وسط البلد، ثم «عادت مجنونة تماما لا ترتدى غير بعض قطع الخيش الذى قذارته أخف قليلا من قذارة جسدها.. تنام أسفل الكبارى وأمام المحال.. تسير ببطء وهدوء وهى تأكل السيجارة بفمها وتحدث نفسها فى مونولوج داخلى طويل غير مفهوم» ولكنه ليس جنون الانسحاب بقدر ما هو جنون عنيف. القسم الثانى «كتاب المكان» فيقدم - رغم صغره - وصفا مستفيضا لكل الأماكن فى منطقة وسط البلد، فنرى أشهر الشوارع والميادين والمقاهى والفنادق والمطاعم والبارات والمواقع الثقافية، متجاوزا فكرة وصف الطبيعة الجغرافية لهذه الأماكن إلى تبيان تاريخها، منذ نشأتها وحتى نهاية بعضها، والظروف التى نشأت فيها وأسبابها، إنه كتاب آسر، شيق، رشيق، وقادر على اجتذاب القارئ بحكاياه الاستثنائية، واستطاع مؤلفه أن يحوله من مجرد حكايات، إلى تأريخ لوطن شهد تحولات جذرية، كانت فوق طاقته وطاقة أفراده. كتاب يستحق القراءة المتأنية والتدبر الواعى، وصولا إلى مستقبل مغاير ربما نصل إليه ذات يوم.