كم سمعنا من أجدادنا أن التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر, فهل كانوا يقصدون بالصغر مرحلة الطفولة المبكرة, أو عموما فترة ما قبل المدرسة في حياة الطفل وهي تلك السنوات الست التي يلقبونها بالسنوات الذهبية الست في حياة الإنسان علي حد تعبير أ.د حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الأسبق ورئيس الجمعية المصرية لطب الأطفال, وهو الخبير التربوي العالمي الذي حصل علي جائزة مئوية الاتحاد الدولي لطب الأطفال مؤخرا, وقد جاء ذلك في محاضرة ألقاها في الحفل الذي أقامه لتكريمه بهذه المناسبة المنتدي الثقافي المصري برعاية ومشاركة د.عبدالعزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق. إن هذه السنوات الست الأولي في حياة الطفل هي بلا شك أهم سنوات عمره نظرا لأنها السنوات التي تتفتح لدي الطفل فيها نوافذ المعرفة المختلفة. وبالطبع فإن معني ذلك أن التعليم المناسب للطفل يجب أن يبدأ في الطفولة المبكرة لأن تأخره الي سن السادسة كما هو قائم فعلا الآن في نظامنا التعليمي يكون أشبه باللعب في الوقت الضائع كما أكد د.بهاء الدين, ولا تعني كلمة التعليم هنا التعليم بطريقة التلقين العادية, بل تعني بالنسبة لمرحلة الطفولة المبكرة التعليم عن طريق اللعب والغناء والموسيقي والأشكال التعبيرية والتمرينات الرياضية, ومن خلال زيارة المتاحف والمناطق الأثرية والمعالم التاريخية.. الخ واستخدام هذه الوسائل التعليمية وغيرها مسئولية معلمة الروضة المتخصصة, وهي القادرة علي اكتشاف مواهب الطفل ورعايتها وتنميتها بوسائل غير تقليدية ومبتكرة تدربت عليها جيدا في دراستها في كليات رياض الأطفال وشعب الطفولة في كليات التربية. ولا شك أن إصدار تشريع ملزم بضرورة ألا يتعامل مع الطفل في هذه المرحلة إلا معلمة متخصصة ضروري في إطار ما ننادي به الآن من ضرورة وأهمية رعاية وتعليم الطفولة المبكر باعتبارها مسئولية الدولة في المقام الأول, فهي بحق قضية أمن قومي وتتعلق بمستقبل وطن يريد أن يشارك في حضارة العصر, وأن ينهض بأبنائه ليكونوا مبدعين في جميع مجالات الحياة, وقادرين علي مواجهة التحديات والمنافسة في سوق العمل العالمي, فضلا عن تحقيق الريادة والتفوق في صنع المعرفة والتكنولوجيا القائمة عليها. وإذا كان البعض يتساءل عن الجدوي الاقتصادية لذلك الاستثمار في مجال الطفولة المبكرة, فإن الحقيقة التي لفت د.حسين كامل بهاء الدين الانتباه إليها هي أن مشروع تنمية الطفولة المبكرة يعطي أعلي عائد اقتصادي إذا ما قورن بمشروعات تنموية كثيرة في بلدان مختلفة من العالم, فالاستثمار في الطفولة المبكرة يعد استثمارا في مجال الثورة المعرفية, والانتاج كثيف المعرفة الذي يمثل ذروة تحديات القرن الحادي والعشرين, فنحن نعيش قرن الثورة المعرفية الذي تعتبر القوة المعرفية فيه هي الميزة التنافسية الحاسمة بين الدول, وهذه القوة المعرفية هي نتيجة مباشرة بلا شك لتنمية قوة المعرفة لدي الإنسان منذ طفولته المبكرة. وعلي ذلك فإن الاهتمام ورعاية التعليم في هذه المرحلة السنية هو الخيار الأفضل والأكثر جدوي ليس فقط لإحراز تقدم في المجال التعليمي والمنافسة في عصر المعرفة, وإنما أيضا لإحراز التقدم حتي في المجال الاقتصادي, حيث إنه الخيار الذي يختصر المدة التي يتحقق التقدم فيها في مدي عشرين عاما علي الأكثر, وهذا الخيار هو الذي اتبعته الدول التي حققت طفرة في التقدم العلمي والاقتصادي مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية, إنه خيار الانتقال من طرق الإنتاج التقيلدية التي لا تحقق التقدم إلا كل مائة عام, الي الانتاج كثيف المعرفة علي حد تعبير د.حسين بهاء الدين الذي يتيح للدولة دخلا قوميا هائلا في وقت قصير. إن أطفالنا هم الثروة القومية الحقيقية والاستثمار في تربيتهم هو الاستثمار الأنفع والمضمون العائد علي مستقبل وطننا, وإذا ما اقتنعنا بذلك فالأمر يتطلب خطوات جدية تبرهن علي هذا الاقتناع ويحتاج الي وضع استراتيجية محددة المعالم لهذه القضية التي تمثل التحدي الأعظم لهذا القرن ولعل أهم معالم هذه الاستراتيجية ما يلي: أولا: أن تدرك الدولة ككل وليس حكومتها فقط أن قضية الاهتمام ورعاية وتعليم الطفولة المبكرة في أنحاء البلاد هي قضية أمن قومي لا يصح التفريط فيها مطلقا. ثانيا: أن يقتنع الجميع بأن الاستثمار في مجال الطفولة المبكرة هو الاستثمار الوحيد مضمون النتائج وهو الذي سيحقق لنا التقدم الذي نطمح إليه في المستقبل القريب وليس البعيد كما يتصور الكثيرون. ثالثا: أن تتغير فلسفة التعليم المصري ككل, إذ لا يعتمد التعليم في عصرنا الحالي علي جمع وحفظ المعلومات, بقدر ما يعتمد علي الكيف الذي يتم به تحصيل المعلومات وتصنيفها والإبداع من خلالها, بحيث يكون التركيز علي كيفية اكتشاف الجديد في كل مجالات الدراسة والإبداع. رابعا: إن الاقتناع بضرورة تغيير فلسفة التعليم المصري ليواكب النظم العالمية المتطورة في التعليم كوسائل ومضامين وغايات يجب تحقيقها من خلاله لابد أن ينعكس علي مرحلة الطفولة المبكرة التي نتحدث عنها, بحيث تكون هي نقطة البداية في هذا التغيير. خامسا: ضرورة أن يصدر تشريع فوري باعتبار مرحلة الطفولة المبكرة أول مراحل التعليم الأساسي, فالتعليم الأساسي في أصطلاحنا وفي نظامنا التعليمي الحالي يبدأ من سن السادسة, بينما التشريع المطلوب هو اعتبار أن رعاية الطفل وتعليمه منذ ولادته وحتي الثانية عشرة من عمره مسئولية كاملة للدولة وعليها أن توفر لها أفضل الإمكانيات وأفضل الوسائل, وأن تكون لهذه المرحلة الأولوية في الاستثمار التعليمي. سادسا: ضرورة أن يكون هناك قانون ملزم لكل دور الحضانة والروضات في جميع أنحاء البلاد بأن لا يتعامل مع الطفل فيها إلا معلمة متخصصة تخرجت في كليات رياض الأطفال أو من شعب وأقسام الطفولة في كليات التربية, وهي كثيرة في جميع محافظات مصر تقريبا, فهذه المعلمة هي الوحيدة المؤهلة تأهيلا أكاديميا وتربويا لتعليم الطفل واكتشاف مواهبه وتنميتها بوسائل غير تقليدية. سابعا: وعلي ذلك فينبغي أن يتزايد الاهتمام بإنشاء كليات جديدة لرياض الأطفال بشرط أن تكون هذه الكليات ذات برامج متنوعة وليس برنامجا واحدا كما هو الحال الآن, وقد أخذت كلية رياض الأطفال جامعة القاهرة مجال الريادة في هذا الإطار حيث تقدمت بلائحة دراسية جديدة هذا العام بها عدة برامج, فبالإضافة الي تطوير برنامج إعداد معلمات رياض الأطفال الحالي حسب نظام الساعات المعتمدة وإضافة مقررات جديدة اختيارية وإجبارية تواكب التطورات المعاصرة في هذا المجال, قدمت برنامجا آخر لإعداد معلمات رياض الأطفال باللغة الانجليزية ليتناسب مع المطلوب الآن في سوق العمل وليلبي احتياجات المدارس التجريبية ومدارس اللغات لمعلمات روضة مؤهلات باللغة الانجليزية وكذلك استحدثت برنامجا لإعداد معلمات الحضانة في مجال الطفولة المبكرة وبرنامج آخر لإعداد معلمة للتربية الخاصة ويتضمن هذا البرنامج برامج تربية خاصة للأطفال الموهوبين وبرامج تربية خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة للتعامل مع الإعاقات المختلفة( العقلية, البصرية, السمعية, وصعوبات التعلم), كما تقدمت في ذات الوقت ببرنامجين للتعليم المفتوح, أحدهما لإعداد معلمات الطفولة المبكرة, وآخر لإعداد معلمات التربية الخاصة في مجال الطفولة المبكرة أيضا, ولا شك أن هذه البرامج الستة تمثل نقلة نوعية في مجال إعداد معلمات رياض الأطفال والطفولة المبكرة في مصر والعالم العربي. وأعتقد أننا في ضوء هذه اللائحة الدراسية الجديدة لتخريج معلمات متخصصات لمرحلتي الطفولة المبكرة ورياض الأطفال سواء للأطفال الأسوياء أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو الموهوبين نكون قد قمنا بدورنا كمؤسسة أكاديمية تواكب التطورات في هذا المجال وتعهدنا بتخريج المعلمات المؤهلات في هذه المجالات خلال أربع سنوات من الآن وعلي الدولة بهيئاتها المختلفة التشريعية والتنفيذية بعد ذلك أن تقوم بدورها في إصدار التشريعات اللازمة لتغيير وتطوير فلسفة التربية والتعليم في مصر بحيث يبدأ التعليم الإلزامي من الطفولة المبكرة وأن توفر كل الإمكانيات السخية للاهتمام بهذه المرحلة حتي نضمن بحق اللحاق بالثورة الجديدة, ثورة الإنتاج كثيف المعرفة التي سبقنا الي الدخول إليها دول عديدة لسنا أقل منها ولا هي أفضل منا.