تراجع مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    ردا على الدعم الأمريكي، الصين تطلق أكبر مناوراتها العسكرية حول تايوان    وفاة خالدة ضياء أول رئيسة وزراء لبنجلاديش    أحمد شوبير يعلن وفاة حمدى جمعة نجم الأهلى الأسبق    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الثلاثاء 30 ديسمبر    الأرصاد الجوية تُحذر من طقس اليوم الثلاثاء    زيلينسكي: لا يمكننا تحقيق النصر في الحرب بدون الدعم الأمريكي    كروان مشاكل: فرحي باظ وبيتي اتخرب والعروسة مشيت، والأمن يقبض عليه (فيديو)    هدى رمزي: الفن دلوقتي مبقاش زي زمان وبيفتقد العلاقات الأسرية والمبادئ    "فوربس" تعلن انضمام المغنية الأمريكية بيونسيه إلى نادي المليارديرات    بيان ناري من جون إدوارد: وعود الإدارة لا تنفذ.. والزمالك سينهار في أيام قليلة إذا لم نجد الحلول    الإمارات تدين بشدة محاولة استهداف مقر إقامة الرئيس الروسي    محافظة القدس: الاحتلال يثبت إخلاء 13 شقة لصالح المستوطنين    مندوب مصر بمجلس الأمن: أمن الصومال امتداد لأمننا القومي.. وسيادته غير قابلة للعبث    النيابة تأمر بنقل جثة مالك مقهى عين شمس للمشرحة لإعداد تقرير الصفة التشريحية    إسرائيل على خطى توسع في الشرق الأوسط.. لديها مصالح في الاعتراف ب«أرض الصومال»    حسين المناوي: «الفرص فين؟» تستشرف التغيرات المتوقعة على سوق ريادة الأعمال    بعد نصف قرن من استخدامه اكتشفوا كارثة، أدلة علمية تكشف خطورة مسكن شائع للألم    أستاذ أمراض صدرية: استخدام «حقنة البرد» يعتبر جريمة طبية    القباني: دعم حسام حسن لتجربة البدلاء خطوة صحيحة ومنحتهم الثقة    سموم وسلاح أبيض.. المؤبد لعامل بتهمة الاتجار في الحشيش    انهيار منزل من طابقين بالمنيا    عرض قطرى يهدد بقاء عدى الدباغ فى الزمالك    حوافز وشراكات وكيانات جديدة | انطلاقة السيارات    ناقدة فنية تشيد بأداء محمود حميدة في «الملحد»: من أجمل أدواره    الناقدة مها متبولي: الفن شهد تأثيرًا حقيقيًا خلال 2025    صندوق التنمية الحضارية: حديقة الفسطاط كانت جبال قمامة.. واليوم هي الأجمل في الشرق الأوسط    حسام عاشور: كان من الأفضل تجهيز إمام عاشور فى مباراة أنجولا    نيس يهدد عبدالمنعم بقائد ريال مدريد السابق    تحتوي على الكالسيوم والمعادن الضرورية للجسم.. فوائد تناول بذور الشيا    أمم إفريقيا – خالد صبحي: التواجد في البطولة شرف كبير لي    ترامب يحذر إيران من إعادة ترميم برنامجها النووي مرة أخرى    في ختام مؤتمر أدباء مصر بالعريش.. وزير الثقافة يعلن إطلاق "بيت السرد" والمنصة الرقمية لأندية الأدب    الكنيست الإسرائيلي يصادق نهائيًا على قانون قطع الكهرباء والمياه عن مكاتب «الأونروا»    الزراعة: نطرح العديد من السلع لتوفير المنتجات وإحداث توازن في السوق    مجلس الوزراء: نراجع التحديات التي تواجه الهيئات الاقتصادية كجزء من الإصلاح الشامل    هيفاء وهبي تطرح أغنيتها الجديدة 'أزمة نفسية'    التعاون الدولي: انعقاد 5 لجان مشتركة بين مصر و5 دول عربية خلال 2025    وزير الخارجية يجتمع بأعضاء السلك الدبلوماسي والقنصلي من الدرجات الحديثة والمتوسطة |صور    سقوط موظف عرض سلاحا ناريا عبر فيسبوك بأبو النمرس    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    نائب رئيس جامعة بنها يتفقد امتحانات الفصل الدراسي الأول بكلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي    الصحة: ارتفاع الإصابات بالفيروسات التنفسية متوقع.. وشدة الأعراض تعود لأسباب بشرية    الاستراتيجية الوطنية للأشخاص ذوي الإعاقة تؤكد: دمج حقيقي وتمكين ل11 مليون معاق    توصيات «تطوير الإعلام» |صياغة التقرير النهائى قبل إحالته إلى رئيس الوزراء    الإفتاء توضح مدة المسح على الشراب وكيفية التصرف عند انتهائها    معدل البطالة للسعوديين وغير السعوديين يتراجع إلى 3.4%    نقابة المهن التمثيلية تنعى والدة الفنان هاني رمزي    نيافة الأنبا مينا سيّم القس مارك كاهنًا في مسيساجا كندا    «طفولة آمنة».. مجمع إعلام الفيوم ينظم لقاء توعوي لمناهضة التحرش ضد الأطفال    وزير الصحة: تعاون مصري تركي لدعم الاستثمارات الصحية وتوطين الصناعات الدوائية    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : وزارة العدالة الاجتماعية !?    السيمفونى بين مصر واليونان ورومانيا فى استقبال 2026 بالأوبرا    تاجيل محاكمه 49 متهم ب " اللجان التخريبيه للاخوان " لحضور المتهمين من محبسهم    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29-12-2025 في محافظة الأقصر    «الوطنية للانتخابات» توضح إجراءات التعامل مع الشكاوى خلال جولة الإعادة    أسود الأطلس أمام اختبار التأهل الأخير ضد زامبيا في أمم إفريقيا 2025.. بث مباشر والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
من أضاع السودان ؟‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 14 - 01 - 2011

عندما ذهب الجنوبيون في السودان إلي صناديق الاستفتاء حول الوحدة أو الانفصال عن الدولة وتكوين دولة جديدة‏,‏ لم يكن خلف أي منهم جندي مدجج بالسلاح‏. ولم يكن هناك مسدس موجه إلي الرأس أو خنجر في اتجاه القلب‏. كانت الجماهير المصطفة في طوابير طويلة تنتظر دورها حرة تماما من كل ضغط خاصة ساعة تلك اللحظة التي يواجه كل فرد منهم ورقة الاقتراع ويتخذ قراره بالانفصال أو البقاء في دولة الوحدة‏.‏ وما بدا ملحوظا علي شبكة الفضائيات التليفزيونية المختلفة أن الجنوبيين كانوا في حالة من الفرحة والسرور التي تأتي لهؤلاء الذين وصلوا بعد طريق طويل من العنت والظلم إلي الانعتاق والوصول إلي فجر حالم بدولة ما سعيدة لا يعرف اسمها ولا علمها ولا نشيدها ولا عن ماذا تعبر‏,‏ أو تجمع أكثر مما تفرق‏;‏ ولكن الأمر كان في أصله وفصله هو الخروج من ظلام دامس إلي نهار مضيء بشمس باهرة تجعل مساحات الأمل ممتدة حتي نهاية الكون‏.‏ لم يكن القرار أمام ورقة الاختيار إسرائيليا ولا أمريكيا ولا غربيا ولا شرقيا‏,‏ ولكنه كان قرار السوداني الجنوبي الذي سوف يحمل قراره علي كتفه‏,‏ وأعباء اختياره علي عاتقيه‏.‏ وما حدث هو أنه يتجه نحو الانفصال بفرحة غامرة وشعور طاغ بالسعادة والأمل‏.‏
هكذا تكون الحال عادة عند ميلاد دولة جديدة‏,‏ بعدها تذهب السكرة وتأتي الفكرة‏,‏ ويشعر الناس بعد ليلة عرس بأن الصداع‏,‏ وما هو أكثر‏,‏ قد ألم بهم‏,‏ لأن الميلاد الذي ضاع فيه مليونان من الضحايا‏,‏ وما هو أكثر منهم من الجرحي‏,‏ وما زاد علي ذلك كله من دمار حرب أهلية‏,‏ وضياع عقود من زمن البناء والتنمية‏,‏ ربما كان سهلا بالمقارنة بالحياة التي علي مولود جديد أن يواجهها بلامال‏,‏ ولا مؤسسات‏,‏ ولا صلات حقيقية وفعلية بين شعب سوف يجد فجأة ما يفرق ولا يجمع‏.‏
وسوف تكون الدهشة عظيمة ساعة انتهاء الاهتمام العالمي‏,‏ واختفاء صور التليفزيون‏,‏ ونهاية قدوم المؤسسات الدولية‏,‏ وحالة التبرم التي سوف تجتاح المؤسسات الدبلوماسية لأن العالم لديه ما هو أهم وأكثر إلحاحا من الجماعة السودانية التي لا تعرف أبدا ما تريد‏,‏ وإذا عرفت فإنها تكون أول من يتملص مما أرادته عند البداية‏.‏ صحيح أن بعضا من مؤسسات الإغاثة والعون سوف تبقي‏,‏ وربما حامت أجهزة مخابرات تتابع أحوال الدولة الوليدة والبحث عما إذا كانت ستقيم بعضا من النظام‏,‏ أو أنها سوف تكون صومالا أخري‏.‏ ولكل هؤلاء جميعا سوف تكون الدولة الجديدة واحدة من قصص أخري‏,‏ بعد أن حازت علي أكثر من نصيبها من مسرح التاريخ‏.‏
قريبا جدا سوف ينفض المولد السوداني‏,‏ أو علي الأقل هذا المشهد الذي نراه منه‏,‏ والذي تشكله واقعة انفصال الجنوب بعد ستين عاما 1955‏ إلي‏2005‏ من الحرب الأهلية أخذت خلالها أشكالا كثيرة حتي بما فيها هدنة طويلة ما بين عامي‏1971‏ و‏1983,‏ عندما أعطي الجنوب حكما ذاتيا في عهد الرئيس نميري‏.‏ وفيما عدا ذلك كان هناك صراع سكتت فيه المدافع أحيانا‏,‏ واحتدم فيه القتال في معظم الأحيان‏.‏
ما جري علي هذا الشكل خلال هذا الزمن الممتد يمثل أزمة الدولة الحديثة في العالم كله منذ ظهرت بعد انتهاء عصر الإمبراطوريات العظمي التي كانت تضم أعراقا وأجناسا وأديانا متعددة كل منها متفرع إلي أنواع وبطون ومذاهب‏.‏ وكانت الدولة الحديثة قادمة من جوف التاريخ لكي تحل معضلة الحكم لجماعة سياسية‏,‏ بمعني أن التقاء مصالحها وحياتها ومستقبل أبنائها‏,‏ يستدعي تلك الصيغة الجديدة من الوحدة السياسية‏.‏ وكان الاختبار الأعظم لكل وحدة أن تتعامل مع التعددية الواقعة داخلها من خلال واحد من طريقين‏:‏ الاعتراف بالتعددية وتنظيمها بالسياسة‏,‏ أوصهر التعددية في بوتقة واحدة عادة ما كانت عنصرا غالبا بالعدد أو بالقوة‏.‏ وفي الحالتين لم يكن النجاح ممكنا علي المدي الطويل ما لم يكن هناك مشروع مشترك للمستقبل يكون واعدا ومبشرا بالحماية والازدهار‏.‏
لم ينج أحد من هذا الاختبار‏,‏ ولم يفلح الاتحاد السوفيتي رغم كل صواريخه النووية ووصوله إلي قمر يطل علي كل الجمهوريات من حماية وحدة الاتحاد‏.‏ وكان علي الولايات المتحدة أن تلم شتات مستعمرات ما لبثت أن وقعت في حرب أهلية طاحنة كانت تكاليفها مماثلة لتلك التي جرت في السودان ولكن المشروع الأمريكي للمستقبل كان هو الذي انتصر في النهاية‏.‏ وكان علي ألمانيا أن تخوض تجربة الانصهار من خلال قومية متطرفة قادت البلاد إلي التقسيم ثم كانت الديمقراطية والمشروع الألماني للوحدة الأوروبية هو الذي وحدها مرة أخري‏.‏ واختارت سلوفاكيا الانفصال دون حرب أو صراع لكي تلتقي مع تشيكيا بعد ذلك من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي‏.‏ ونجحت إنجلترا في أن تبقي كلا من سكوتلاندا وويلز داخل المملكة المتحدة‏,‏ ولكن أيرلندا بقيت بعيدا وجمهورية أيضا‏.‏ وانقسمت الهند رغما عنها ونشأت باكستان التي انقسمت إلي دولتين‏,‏ وبقيت الدولة الأم دون انقسام لأنه كان لديها من الشجاعة والمدنية بحيث تجعل سيدة مسلمة رئيسة لمجلس الشيوخ‏,‏ ومسلما رئيسا للدولة الهندية‏.‏ وحتي الصين التي هي من أكثر دول العالم تجانسا انقسمت إلي دولتين حتي لو كان كل منهما يعلن بوضوح أن هناك صينا واحدة‏.‏
الأمثلة كثيرة وموجودة باتساع العالم بأسره‏,‏ وكلها كانت اختيارات حدثت سلما أو حربا للشعوب والأفراد‏,‏ وفيها اختبرت الحكمة والإرادة من أجل الوحدة والانفصال‏.‏ نقول هذا حتي لا تشتد بنا تلك النزعة الهروبية التي تلقي بالمسئولية فيما حدث علي القوي الأجنبية التي قررت وعزمت علي تفتيت العالم العربي حتي لا يتحد ويشكل تهديدا للغرب أو لإسرائيل‏,‏ وكأن العالم العربي بات أكثر قوة من اليابان أو روسيا أو الصين وفيه ثورات علمية وتكنولوجية واقتصادية تستعد لكي تواجه وتصارع‏.‏ وببساطة فإن التاريخ العالمي كله يقول إن الوحدة والانفصال هما صناعة محلية صرفة تنسجها وتزرعها قوي محلية ونخب حاكمة ومسيطرة وأفكار ذائعة وثقافات مسيطرة‏.‏ وليس معني ذلك أن القوي الخارجية لا تستغل الفرص‏,‏ فذلك منطق التاريخ أيضا‏,‏ ولكن دور القوي الخارجية لا يزيد علي دور من يستغل ظروف السوق لكي يحصل علي أفضل الشروط لمصالحه الخاصة‏,‏ ولكنه لا يخلق بضاعة‏,‏ ولا يوجد لا عرضا ولا طلبا‏.‏ وشواهد السوق هذه تظهر في الحالة السودانية عندما نجد كينيا تؤسس مشروعا يشمل بناء ميناء في مدينة لامو الواقعة علي ساحل المحيط الهندي سوف يرتبط بشبكة من الطرق التي تصل إلي جنوب السودان باستثمارات متوقعة قدرها نحو‏16‏ مليار دولار‏,‏ منها‏3.5‏ مليار سوف تسهم بها قطر في المرحلة الأولي‏,‏ وذلك في مقابل حصولها علي‏40‏ ألف هكتار من الأراضي الزراعية في كينيا‏,‏ في الوقت الذي أشارت فيه تقارير إلي أن الحكومة الصينية سوف تقوم بتمويل مشروع سكك حديدية يربط بين كل من إثيوبيا وجنوب السودان‏.‏
لكن المسألة السودانية تظل في جوهرها وأصلها وفصلها سودانية حدث الانفصال فيها نتيجة اختيارات جرت من نظم حكم مختلفة‏,‏ ومسارات نخبة لم تعرف أبدا المسار الصحيح لبقاء السودان موحدا وحرا ومزدهرا‏.‏ فلا يستطيع أحد أن ينعي ما جري في السودان إلي الديكتاتورية العسكرية‏,‏ فقد نعمت الدولة بفترات من الحكم الديمقراطي الذي سرعان ما كان يغرق في الفوضي والفساد‏.‏ ولا يستطيع أحد أن ينعي ما جري في السودان إلي سوقية النظام الديمقراطي السوداني‏,‏ فقد كانت أيام الحكم العسكري والديكتاتورية العسكرية غالبة في معظم الأوقات‏.‏ والغريب في الأمر السوداني ولعله لا غرابة علي الإطلاق في دولة عربية أنه سواء كان الحكم عسكريا أو ديمقراطيا أو بين هذا وذاك‏,‏ فقد كانت هناك وسيلة دائمة لمواجهة المشكلات المستعصية‏:‏
أولاها‏:‏ إلقاء التبعات علي المؤامرة الصهيونية الغربية علي السودان الذي لديه من الإمكانيات ما يجعله دولة عظمي تقض مضاجع القوي الكبري والعظمي‏!‏
وثانيتها‏:‏ الشكوي من التركيبة السودانية المستعصية من التناقضات الهيكلية التي فرضت صعوبات عديدة أمام تكامل الدولة‏,‏ لدرجة أجهضت كل المحاولات والجهود والسياسات التي انتهجت للتعامل معها بهدف تقليص حدة تداعياتها السلبية وآثارها الكارثية‏.‏ بعبارة أخري‏,‏ تلقي هذه النظرية المسئولية عما يحدث الآن في السودان علي العامل الجغرافي الذي فرض علي السودان هذه الثنائيات المتعددة ما بين مسلم ومسيحي‏,‏ وغني وفقير‏,‏ وشمال وجنوب‏,‏ وغيرها من التمايزات التي ساهمت في تأجيج الصراع المسلح بين الشمال والجنوب‏,‏ وأبرزها ما يمس تركيبته الاجتماعية والعرقية واللغوية والثقافية‏.‏ فالمشهد السوداني الداخلي بالغ التعقيد‏,‏ كما سبق أن أشرت في مقالي السودان الآخر المنشور في هذه الزاوية بتاريخ‏18‏ ديسمبر الماضي‏,‏ حيث يوجد بالبلاد نحو‏100‏ لغة و‏57‏ اثنية عرقية‏,‏ و‏570‏ قبيلة‏,‏ وتتكون التركيبة الاثنية السودانية من عنصرين أساسيين هما العنصر المحلي الإفريقي‏(52%)‏ والعنصر العربي‏(39%)‏ فضلا عن البجا‏6%‏ والأجانب‏2%‏ والعرقيات الأخري‏1%,‏ وأصبحت التركيبة الاثنية السودانية توصف بأنها ذات طابع هجين إفريقي عربي‏.‏
وثالثتها‏:‏ العودة إلي الدين مخلصا ومنقذا‏,‏ وبينما استندت الفترات الديمقراطية علي الطوائف المهدية والخاتمية تحت أسماء مدنية مثل حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي فإن العسكريين ذهبوا مباشرة إلي تمثيل الشريعة كما رأوها كما حدث في عهد نميري الذي نقض عقدا كاملا من السلام‏;‏ أو باتخاذ الحاضنة من جماعة الإخوان المسلمين التي قدمت حاضنتها بسخاء كبير كما حدث مع العهد الحالي في السودان‏.‏
كان الواقع الأجنبي الانتهازي موجودا في كل أنحاء العالم وفي كل مراحل التاريخ‏;‏ ولم تكن هناك دولة أكثر تعقيدا وتركيبا من الهند حتي بعد أن خرجت باكستان‏,‏ أو سويسرا ولكن كلا منها وجد طريقه للبقاء والوحدة‏.‏ ولكن الكثير من دول العالم وكلها مركبة ومعقدة وجد طريقه للبقاء ليس عن طريق الدين أو الأيديولوجية الشمولية مثل الشيوعية أو النازية فكلها قادت إلي التقسيم‏,‏ ولكن المشروع الوحيد الذي بقي ونجح كان الدولة المدنية الحديثة‏.‏ الدولة المدنية التي تساوي بين مواطنيها حقا وقولا‏,‏ وليس شكلا ومنة‏;‏ والدولة الحديثة التي تربط بين جماعاتها بمشروع عظيم لمستقبل مشترك‏.‏
من أضاع السودان كانت النخبة المدنية والعسكرية التي لم تأبه بالتعامل مع مجتمع مركب بقدر قدرتها علي الهروب من الواقع إلي العالم الخارجي مرة‏,‏ أو للدين لعله يخلق أمة‏,‏ أو يقيم دولة‏.‏ وبالتأكيد كان أمام السودان فرصة خلال فترة الحكم الذاتي التي أتاحت سلاما ووئاما لكي تقام المؤسسات‏,‏ وتبني الصناعات‏,‏ وتربط البلاد بالطرق‏,‏ وتتوحد الأقاليم بالمصالح والسوق المشتركة‏.‏ ولكن الفشل في كل ذلك قاد نميري إلي تطبيق الشريعة‏,‏ فقاد جون جارانج إلي الأحراش ليعطي السودان فرصة أخري لم تعطها حركات التمرد الأخري أنانيا الأولي والثانية لكي يكون مدنيا وحديثا‏.‏ ولكن النخبة الديمقراطية هذه المرة كانت هي التي تقاعست‏,‏ ولم يكن لديها الشجاعة لكي تفعل ما فعله إبراهام لينكولن في الولايات المتحدة الأمريكية لكي تجعل الوحدة وبقاء الدولة أعلي من كل القيم الأخري‏.‏ فرغم ما هو شائع أن الرجل كان محررا للعبيد‏,‏ فالحقيقة كانت أنه كان موحدا للدولة‏,‏ ورغم رفضه الأخلاقي والديني أيضا لمؤسسة العبودية فإنه كان علي استعداد للتغاضي عنها في سبيل الوحدة‏.‏ وعندما أصدر إعلانه لانعتاق العبيد فإن ذلك كان ينطبق فقط علي الولايات التي انفصلت عن الاتحاد‏,‏ أما تلك الولايات التي كانت متحالفة مع الحكومة الاتحادية أو علي الحياد في الحرب الأهلية فلم يكن الإعلان منطبقا عليها‏.‏ وفي النهاية فإن تحرير العبيد جاء نتيجة هزيمة الجنوب في الحرب‏,‏ والحرب ذاتها‏,‏ ثم بعد ذلك التعديل الدستوري الثالث عشر الذي حرم العبودية بعد تسعة عقود من الاستقلال الأمريكي‏.‏
لكن القضية ليست فقط ضياع جنوب السودان بسبب ما فعله الإخوان المسلمون بالدولة‏,‏ وخلط الدين بالسياسة‏;‏ فمن ناحية فإن قصة السودان ذاتها لم تنته بعد‏,‏ ومن ناحية أخري فإن القصة السودانية هي قصة الأغلبية من الدول العربية والإسلامية الحائرة بين الدولة والدين‏.‏ ومن المدهش والمحزن معا أن نجد تلك الحالة البائسة لمثقفي الإخوان وكتابهم الذين لا يريدون الاعتراف بالدور الذي قامت به جماعتهم في انفصال جنوب السودان‏,‏ وفي التهديد القائم منهم للشمال‏,‏ ولا بالدور الذي تقوم به جماعات دينية أخري اختلط لديها فكر الإخوان بأفكار أخري أكثر تطرفا‏,‏ في تدمير الدولة العربية‏.‏ ويبدو الأمر كما لو أن الجميع وضع عصابة علي عينه حتي لا يري ما يفعله حزب الله بلبنان‏,‏ ولا ما فعله تنظيم حماس الذي قدم نموذجا جديدا قوامه تفتيت الدولة حتي قبل قيامها‏,‏ ولا ما يفعله النظام الإيراني بإيران والعراق‏,‏ ومن يرد المزيد فعليه أن ينظر في باكستان وأفغانستان لكي يتعلم دروسا بليغة‏.‏
الخلاصة ببساطة هي أن الدولة لا تكون إلا مدنية وحديثة‏,‏ فلا شعب دون مواطنة‏,‏ ولا دولة دون شعب‏,‏ ولا شعب دون سوق حرة مشتركة ومترابطة بوسائل الحداثة المعاصرة والمؤسسية القانونية والدستورية‏.‏ هنا فإن الحديث يتعدي الأمر في السودان وغيره من الدول العربية ويعود مرة أخري إلي مصر حيث المقام والمقصد‏,‏ والأهم من ذلك كله الإمكانية لوجود دولة مختلفة أثبتت حتي أيام قليلة مضت أن لديها قدرات فائقة علي مواجهة الملمات‏.‏ ولكن القدرات تنفد‏,‏ والنوايا الطيبة أحيانا تكون أسهل الطرق للوصول إلي جهنم‏,‏ والاتفاق علي الدولة المدنية الحديثة لا يكفي دون أن يبدأ نسجها وإقامة أعمدتها وترسيخ أسسها وتحقيق التوافق الاجتماعي والسياسي حولها‏.‏ وإذا كانت هناك نية واضحة لموجة جديدة من الإصلاح الاقتصادي فإن الواجب يقتضي موجة أخري للإصلاح السياسي بدأنا الحديث عنها في الأسبوع الماضي ونستأنف الحديث عنها في الأسبوع المقبل‏.‏ لقد اكتملت الدائرة كما يحدث دائما‏,‏ وإذا كنا قد بدأنا بالسودان‏,‏ وطفنا بالعالم‏,‏ فقد عدنا في النهاية إلي مصر
‏.‏‏[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.