روبير سوليه شخصية تستحق أن يعرفها المصريون. وهو معروف في فرنسا أكثر كثيرا من الوطن الذي نشأ به وعاش فيه حتي الثامنة عشرة من عمره. فهو من مواليد القاهرة عام1946 من أسرة تنتمي إلي الجالية التي نطلق عليها اسم الشوام ومعظمهم فروا من لبنان وسوريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هربا من اضطهاد الدولة العثمانية ووجدوا في مصر مرفأ للأمان والطمأنينة, وشكلوا عنصرا ديناميكيا كان له إسهام كبير في النهضة الثقافية والفكرية التي غيرت وجه مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. ويكفي أن نعلم أن الأخوة سليم وبشارة تقلا اللذين أسسا صحيفة الأهرام عام1875 كانا ينتميان لهذه الجالية وكذلك جورجي زيدان مؤسس دار الهلال. ومن أبرز المصريين المنحدرين من أصول شامية الفنان الكبير عمر الشريف والمخرج الراحل يوسف شاهين, وربما كانا الوحيدين اللذين نجحا في كسر حاجز المحلية, وتوصلا إلي شهرة عالمية في مجال الفن السابع. ولا شك أن قيام ثورة23 يوليو وسعي السلطة الجديدة لتمصير كل شيء وتقليص الوجود الأجنبي كان له أثر سلبي علي هذه الجالية, فبدأت تتقوقع علي نفسها وتشعر بالغربة وانتهي الأمر بأن هاجر معظم الشوام الذين عاشوا أجمل أيامهم في ربوع مصر. وكان هذا هو مصير أسرة روبير سوليه التي غادرت مصر عام1964 بعد أن أنهي دراسته بإحدي المدارس الفرنسية, في القاهرة. وكان القدر يدخر لهذا الشاب النابه مستقبلا لامعا في الصحافة الفرنسية حيث عمل بجريدة لموند أشهر الصحف الفرنسية التي يعقد الكثيرون المقارنة بينها وبين الأهرام من حيث الجدية ورصانة الأسلوب. وتدرج روبير سوليه في تلك الصحيفة حتي وصل إلي منصب مدير التحرير. والغريب أن روبير عاش نحو ربع قرن بفرنسا في حالة قطيعة تامة مع مصر, وأعتقد أنه لم يقم بزيارة واحدة لها طوال هذه الفترة ويبدو أنه كان راغبا في وضع حد فاصل بين حياته الأولي في مصر وحياته الجديدة في فرنسا, وكأنه ولد من جديد عندما هاجر إلي باريس. لكن الحنين إلي الجذور عاوده وكأنه قدر يتربص به وأصبحت كل كتاباته تنضح بعشق مصر والانبهار بحضارتها. وكانت بداية استعادة الوعي بالأصول عندما كتب رواية الطربوش التي لاقت نجاحا كبيرا في فرنسا في التسعينيات من القرن الماضي وهي تحكي قصة أسرة من أصول شامية مقيمة في مصر وتمصر أبناؤها وأنشأ عميدها جورج بطركاني مصنعا للطرابيش جمع منه ثروة طائلة وصار شخصية مرموقة في المجتمع المصري في العشرينيات من القرن الماضي. وقد صدرت مؤخرا في باريس أحدث رواية لروبير سوليه بعنوان سهرة في القاهرة وهي تعد استكمالا لسلسلة روايات عن مصر وأسرة بطركاني وكأنها ملحمة عن جالية الشوام وكيف تأثروا بمصر وأحبوها لكنهم شعروا بعد ثورة23 يوليو كما يقول أحد أبطال رواياته إنه لم يعد مرغوبا فيهم وأنهم صاروا غرباء ينظر إليهم بالشك والريبة. وكانت هذه الرواية من أبرز الأعمال المرشحة لنيل جائزة رينودو وهي أهم جائزة أدبية سنوية في فرنسا بعد جائزة جونكور.. لكن الحظ لم يحالفها ولم تفز بهذه الجائزة المهمة وإن كان يكفي أنها كانت علي القائمة النهائية للاختيار. وبمناسبة ظهور سهرة في القاهرة أدلي روبير بحديث في فرنسا قال فيه: إن لديه ثقة كبيرة بمصر بمستقبلها وقال جملة مؤثرة وهي إنه يشعر بانتمائه لمصر عندما يغضب لما بها من مشكلات وسلبيات ومنغصات علي مستوي الحياة اليومية. لكنه عندما يشاهد نفس السلبيات في بلاد أخري فهو لا يغضب ولا يبالي لأنه غريب عنها. وأعتقد أن هذا معيار للانتماء ربما لا يتنبه إليه الكثيرون. وتشعر بين الروايتين الطربوش وسهرة في القاهرة بالفارق بين جيلين من الشوام: الأول مستقر بمصر ويرفض مغادرتها لأي سبب.. أما الآخر وهو الجيل التالي فيتطلع إلي الهجرة ولا يكف بعض أفراده عن توجيه الانتقادات إلي مصر. وبطل رواية سهرة في القاهرة هو حفيد جورج بطركاني مؤسس مصانع الطرابيش الذي عاش ومات ودفن بمصر ولم يفكر لحظة واحدة في تركها, لكن أبناءه اختاروا طريق الهجرة واحدا وراء الآخر بعد أن شعروا أنه لم يعد لهم مكان في مصر. وتبدأ أحداث الرواية بوصول بطلها ويدعي شارل الذي يتحدث بصورة المتكلم إلي القاهرة التي نعلم من السياق أنه يقوم بزيارتها بانتظام بعد أن انقطع عنها سنوات طويلة, مما يوحي بأن بطل الرواية ليس إلا روبير سوليه نفسه. وتشعر طوال الرواية بأن البطل ينظر إلي مصر بعطف ويعتبر أنها الجنة المفقودة التي عاش فيها أجمل أيام طفولته وصدر شبابه. ويحيط الراوي مهمته في القاهرة بهالة من الغموض طوال الرواية. وقد اختار في هذه الزيارة أن ينزل ضيفا علي دينا زوجة عمه الراحل التي تسكن الفيلا الكبيرة التي كان يملكها جورج بطركاني عميد الأسرة بجاردن سيتي في العصر الذهبي لذلك الحي. فدينا هي البقية المتبقية من افراد العائلة التي رفضت الهجرة, وقررت أن تعيش بالقاهرة, فوافق أفراد الأسرة المهاجرون أن يتركوا لها المنزل الفخم الذي شهد عصر ازدهارهم بالقاهرة. ويتصادف أن تقيم دينا حفل عشاء كبير يحضره خليط من المصريين والفرنسيين وفلول المتمصرين الذين تمسكوا بالعيش في القاهرة. وتدور خلال العشاء حوارات مثيرة عن مصر, وكيف تغيرت خلال نصف القرن الأخير, خاصة أن معظم الحاضرين عاشوا في القاهرة عندما كانت مدينة متفتحة تحتضن كل الجاليات المقيمة بها, ولا تفرق بين الناس علي أساس العرق أو الدين بل تعطي لكل واحد فرصة العمل والارتقاء. ونكتشف في النهاية أن شارل مفوض من أفراد العائلة المقيمين في مدن مختلفة بأوروبا وكندا بإقناع دينا بمغادرة الفيلا توطئة لبيعها وتقسيم ثمنها عليهم وهو يشعر بالحرج الشديد من هذه المهمة, لكنه يفاجأ في نهاية القصة بأن دينا نفسها ليست في حاجة إلي إقناع وأنها قررت بالفعل التخلي عن القصر القديم وكأنها تنفصل عن حياتها الماضية وتنتقل بشقة في الزمالك في محاولة للاندماج مع الحياة الجديدة. فهذه الفيلا الفخمة هي رمز لزمن ولي بلا رجعة ليس بالنسبة لأسرة بطركاني وإنما بالنسبة لمصر كلها. ونعلم من دينا أن الفيلا سوف تتحول إلي متحف لأحداث ثورة19 وكأن مصيرها أن تظل شاهدا علي العصر الماضي. وتشعر عند الانتهاء من قراءة الرواية برأي روبير سوليه وهو أن انحسار جالية الشوام وانسلاخها عن مصر كان بمثابة بتر لجزء من ثقافتها.