لم يكن اختيارا وإنما هي ظروف تتصل بالعلاج أوصلتني الي لندن في هذا الشتاء القاسي ارغمتني علي قضاء شهر ديسمبر الماضي, الذي يقولون انه اكثر الاشهر بردا في تاريخ العاصمة البريطانية منذ مائة وعشرين عاما. ورافق العلاج الاتفاق علي نشر بعض من كتبي باللغة الانجليزية بدءا بالاجزاء الثلاثة الأولي من الأثنتي عشرية الروائية خرائط الروح, عن مؤسسة دارف, وتوقيع عقد مع كوارتيت هي الدار التي سبق أن أصدرت لي في مطلع التسعينيات الثلاثية الروائية بوكس بنشر روايتي الصادرة عن دار الهلال بعنوان فئران بلا جحور, وكانت كوارتيت حدائق الليل, باللغة الانجليزية, يملكها رجل بريطاني من اصل فلسطيني اصبح اسطورة تمشي علي قدمين بسبب ما اثاره من جدل روما اصدره من مؤلفات, وما كان يرعاه من مؤسسات ثقافية كانت تعجز الحكومة عن حمايتها من الانهيار فيتولي هو الصرف عليها من المؤسسات المالية التي كان يديرها بما فيها شركته القابضة نامارا وشركة المجوهرات العالمية التي كان يرأسها اسبري, وصار احد اشهر الوجوه في الميديا العالمية. وسأبدأ هذه الخواطر بالحديث عن هذا الرجل الذي ظل شخصية في الاخبار منذ ما يقرب من خمسين عاما ولايزال, اسمه نعيم عطاء الله, من مدينة بيت لحم في فلسطين وينتمي لعائلة من الكاثوليك العرب, وعاش طفولته في القدس وعند اعلان الدولة اليهودية في فلسطين عام1948 رحل مع اسرته الي بريطانيا بحكم ان والده كان صاحب وظيفة مع الإدارة البريطانية تمكن بموجبها من الحياة والاقامة في لندن. وواصل الصبي الذي لم يكن عمره يزيد علي عقد ونصف العقد دراسته المتوسطة والجامعية في بريطانيا واكتسب لغتها التي غدت هي لغة القراءة والكتابة بالنسبة له, عمل في الصحافة والاعلام والمسرح واهتم بعالم البنوك والاسواق المالية, وصار صاحب شهرة وثروة, واصبح مديرا لاحدي اكبر شركات المجوهرات في العالم, دون أن يتخلي عن هواياته وممارساته الادبية والفنية, راعيا للفنون وصاحبا لعدد من المنابر الثقافية, ومؤلفا لعدد من الكتب الادبية ومقتحما مبادرا في عالم الحياة الاجتماعية والفنية يصنع المغامرات التي تستقطب عناوين الصحف بما في ذلك علاقاته بشهيرات النساء اللاتي كن موضوع مجلد كبير عنوانه انساءب قدم فيه تاريخا لعلاقاته وحواراته ومقابلاته مع اشهر نساء العالم فنانات مثل اليزابيث تيلور وافا جاردنر, وزعيمات مثل انديرا غاندي ومارجريت ثاتشر وكان صاحب المجلة الادبية الاشهر في بريطانيا ليتراري ديفيو داعما لها من ماله الخاص والنادي الذي يتبعها ليتراري كلوب, ومجلة الكبار أولديز, ومجلة الموسيقي اوتار أو سترينجز, وفي منتصف السبعينيات اشتري دار نشر معروفة اسمها كوارتيت بوكس التي اعطت اهتماما للكتاب العرب ونشرت اعمالا روائية لكتاب عرب من بينها روايتي الثلاثية, كما الحق بها ويمين برس التي اهتمت بنتاج الاديبات في العالم وبينهن الاديبات العربيات, واغلب هذه المؤسسات عانت شيئا من التأزم بسبب خروج نعيم عطاء الله من اسيري لبلوغه سن التقاعد وتخلي عن كثير منها إلي مؤسسات اخري تتولي دعمها وتفرغ هو لكتابة مؤلفاته الخاصة مثال سيرته التي اصدر منها ثلاثة كتب هي الرضا والخيانة ومرحلة الصبا في لندن وسيدتين من الناصرة, وادارة كوارتيت بوكس التي صارت علي يديه دار نشر تنصف العرب, وكان اخر كتاب اصدره عيون في غزة وهي شهادة الاطباء الالمان الذين تطوعوا لانقاذ المصابين من الهجمات الاسرائيلية في غزة وكتبوا كتابا نشروه باللغة الالمانية عن فظائع ذلك الهجوم ترجمه نعيم عطاء الله ونشره عن طريق هذه الدار. الناشر الثاني ادارفب وهي مؤسسة للنشر باللغة الانجليزية انشأها في لندن الاستاذ محمد الفرجاني, رائد النشر والمكتبات في ليبيا الذي بدأ مسيرته عشية انتهاء الاستعمار الايطالي للبلاد في مطلع الاربعينيات, عصاميا, مكافحا, يعمل بالتدريس مساء, ويدير محلا لبيع الصحف صباحا, وكان يستخدم دراجة تجر صندوقا, يجلب بها الصحف بنفسه من المطار الي وسط المدينة, ونشر اول ما اصدره رواد الطليعة الادبية من كتب مواصلا نشاطه في النشر والتوزيع داخل بلاده الي عام1977 عندما شملت مكتباته وشركاته التجارية, اجراءات التأميم, وبلغت حصيلة ما آل الي الدولة من ممتلكاته ما يزيد علي130 مليون دولار, فانتقل بنشاطه الي خارج بلاده, الي مصر ثم الي لندن حيث واصل النشر باللغتين العربية والانجليزية وقام بتأسيس ثلاث مكتبات انجليزية موزعة بين احياء لندن الراقية, كما استأنف بعد الانفتاح الاقتصادي نشاطه في ليبيا, وعهد لاولاده بفتح اربع مكتبات فيها, وهو الذي شارك في نشر الرواية الاثنتي عشرية مع ناشر من لبنان, وقد اخذ الآن علي عاتقه تقديمها الي قراء اللغة الانجليزية, في اربعة كتب, يبدأ باصدار اولها هذا العام باذن الله. نعم كنت حاضرا هذه الموجة من البرد التي لم تشهد لندن لها مثيلا في التاريخ الحديث, ولكنني اقول صادقا لم اشعر بقسوة البرد الذي اشعر به عادة في شتاء البلاد العربية, فالتدفئة المركزية في البيوت والمكاتب المقاهي والمطاعم تطرد كل اثر للبرد, والمواصلات علي نفس الدرجة من التدفئة, وقد لا احتاج للبقاء في الشارع اكثر من ربع دقيقة هي مدة المشي من باب البيت الي السيارة.