يعتب الصيدلي الشاعر البديع محمد سليمان علي النقاد بحق أنهم شغلوا في العقود الأخيرة بتأمل أدواتهم المنهجية وتنمية نظرياتهم المعرفية في علوم النقد, ولم يتوفروا كما ينبغي علي أداء رسالتهم في تحليل تجارب الشعراء المحدثين لكشف الثراء الكامن في نصوصهم, وإبراز الخصوصية المائزة لكل منهم, كما يبوح محمد سليمان في مقدمة ديوان دفاتر الغبار بأشياء بالغة الرهافة عن تكوين عالمه الشعري وعشقه للسينما والحكايات, ورأيه الجسور في أن لكل شاعر قصائد متفردة قد تضيع في غمار النصوص الكثيرة التافهة إن لم تلتقطها عين الناقد الخبير, لتحضرها في ذاكرة القراء وضمير الحياة الإبداعية. ويعترف من ناحية أخري بفضل أمل دنقل عليه وخلافه معه قائلا أفادني كثيرا عندما أدخلني في ورشته الإبداعية وأراني مسودات قصائده وعمليات الحذف والاختصار التي خضعت لها, وطبق ذلك علي قصيدة لي فصارت أقصر وأكثر تماسكا وأجود فنيا, كان هذا ما تعلمه من محمود حسن اسماعيل كما قال لي وربما كانت هذه الشهادة بالغة الأهمية عن علاقة أمل بشاعر الكوخ وأخذه عنه في مدرسة التكثيف والمجاز والبلورة التعبيرية, لكن سليمان لم يلبث ان اختلف مع أمل عندما طالبه هذا الأخير بأن يستقيل من عمله في الصيدلية ويتفرغ للشعر, لأنه كما يقول إذا لم ننجح الآن لن ننجح غدا, لأن كل زمن يأتي بمعلميه وأطبائه ومهندسيه وشعرائه, وسياسييه ولصوصه أيضا, مما يعني ضرورة التفرغ للكتابة والنشر, وترويج الشعر, والقائه هنا وهناك وأحسب ان القضية في وجدان أمل لم تكن مسألة ترويج بقدر ما كانت الإخلاص الكامل والتوحد المطلق لفن عسير, يستصفي صوت الصر ويجسر علي التعبير القوي المكثف عنه, حتي يدوي في سمع الزمان, كما فعل دنقل في معلقته الخالدة أقوال جديدة عن حرب البسوس والتي اشتهرت بعنوان أحد مقاطعها الشعرية لا تصالح وهي التي ضمنت لأمل حتي الآن موقع الصدارة بين شعراء جيله بجدارة لافتة. وجه بلادي أصفر: ولأن لكل لحظة زمنية طباعها فإن محمد سليمان يبرهن في هذه المجموعة وما تلاها علي امتلاكه لهذه الطاقة في تشعير الحياة وتجسيد ايقاع الوعي بها, فإذا بحثنا عن المقطوعة التي تغني عن غيرها وجدنا قصيدة له بعنوان وجه بلادي أصفر يقول فيها: حثني عن شيء آخر أعني شيئا لا يشبه قمر الكاذبين ولاخطب القيصرة/ ولا تمثال القيصر حدثني عن شيء لا يوقظ ألمي أو يرمي السقف علي/ ويرفع ضغط دمي لا تقل الوطن خبا/ والرايات انطفأت والغربان احتلت غرف القصر ثرثر عن ريح سوف تزعزع بابا أو عن سحب كمناطيد ستدنوا, أو ناس ليسوا خشبا حدثني مثل أخ عن فرح ما/ في ناحية ما أرضي واسعة/ وهوائي يتحسسه الأعمي قل سيقوم النيل غدا/ والرمل كشبح سوف يفر... فلا شك ان الشاعر يلتقط في هذا المشهد الحميم من حوار الإنسان المصري مع نفسه وأخيه توقه المتوهج للكف عن حديث الحياة العامة المحبط الذي يرمي السقف علي رأسه ويرفع ضغط دمه وهو يذكره بانطفاء رايات الوطن, ليبعث في نفسه الأمل في أي فرح ينهض علي ضفة النيل, لاحظ الطابع السردي البصري الجميل في هذا المشهد الذي يحاول فيه محمد سليمان نفض الغبار عن الوطن والشعر معا, وهو يذكر بالغبار الذي كان يشكو منه يوسف ادريس كلما عاد الي مصر فوجد ايقاعها الحضاري اخفت وأدني مما تستحقه في ضمير العالم المعاصر. نعمة الغياب: في ديوانه العاشر والأخير أكتب لأحييك يوغل محمد سليمان في عوالمه المتراوحة بين البوح والكتمان, بين الذات والأغيار, بين تراب الشوارع وكناسة الدكان, لينتقد سردية الحياة اليومية في شكلها الكلي, وليبث فيها بوارق الشعر ولوامع الأمل قائلا: في المدن التي/ تلتف بالخان والضجيج والتراب في المدن التي/ لا تختفي بالريح أو بالنهر في المدن التي/ ينام فيها الناس أحيانا أمام شاشة/ أو فوق مقعد/ أو تحت جسر في المدن التي/ تقدس الحيطان والأقفال والأبواب ندور كالأسري/ معبئين بالصور ومحتمين كالأشباح دائما/ بنعمة الغياب والقصيدة التي تتكئ علي القافية الاستهلالية, أو ما يسمي في البلاغة الغربية أنا فورا تهجو القاهرة علي وجه الخصوص وترثي لإنسانها الطيب, وهو يدور في مكان أسير للغياب, علي الرغم مما يعبئه في عينيه من مشاهد وصور, ولكن تنكير المدن وتوصيفها بحزمة من الصفات الفارقة يجعلها أشد توحشا واغتيالا للطبيعة بانهارها وحقولها وطيورها وأشجارها, ومع أن تنمية المدينة متجذرة في الوعي الشعري المعاصر منذ اليوت حتي اأحمد عبد المعطي حجازيب غير أن رؤية شاعرنا لها تجرها الي اللحظة المعاصرة التي ينام فيها المستلبون أمام شاشات تزيف وعيهم أو تحت جسور تطحن أجسادهم, أو خلف أسوار مقدسة وحيطان عالية يرفعها أصحاب الجسور الذي يقتلهم الرعب من الآخرين بينما يعيش بقية الناس كالأشباح, يتمتعون بنعمة الغياب, أليست هذه ملامح المجتمع المعاصر, هكذا يتصدي الشاعر ليرد للإنسان اعتباره, وللجمال قيمته, وللحضور الوجودي حقيقته, ويظل محمد سليمان واحدا من أنقي الأصوات الشعرية التي تعمر وجدان مصر, وتنفي عنها فقر الروح, وانطفاء جذوة الابداع.