تستقبل اليابان العقد الثاني من الألفية الثالثة بأبصار شاخصة إلي جملة أخطار وتحديات تعد حملا ثقيلا عليها مواجهتها والتكيف معها لأنها ستكون حاكمة ومحددة لتفاصيل صورة متكاملة لمستقبلها في المنظورين القريب والبعيد. اللافت ان ما تتصدي له طوكيو خارجيا وداخليا يأتي مصحوبا بتعقيدات وتشابكات تجعلها باستمرار واقفة في وضع التحفز بخندق الطوارئ الضيق, فهي تحارب باستماتة لكي لاتفقد مقعدها المتقدم والمميز بنادي الكبار الأقوياء ولا تود التقهقر للخلف جراء تزايد أعداد المنافسين لها علي الزعامة الإقليمية والاقتصادية من قبل بعض جيرانها الذين كانوا حتي سنوات خلت ينظرون إليها بإعجاب يحدوهم الأمل في اقتباس ونسخ ولو القليل من سجلات نجاحها الاقتصادي والتكنولوجي, فصغار الأمس شبوا عن الطوق بشعورهم بثقة متعاظمة في قدرتهم وأحقيتهم في منحهم فرصة لتصدر المشهد السياسي والاقتصادي في القارة الآسيوية ودوليا. ولعل تلك الجزئية تشكل ضغطا زائدا علي الساموراي الياباني الذي لايستخف ولايستهين بصعوبة معاركه الخارجية المصيرية, فاليابان محاطة ومحاصرة من كل الاتجاهات بأعباء ومتاعب متكاثرة تهدد أمنها القومي وتشعرها بقلق مزمن عليه. وربما كان هاجسها الأعظم بهذا الخصوص ممثلا في الجارة الواقعة علي مرمي حجر منها وهي كوريا الشمالية المشهود لها بخصال وطباع التمرد والمشاغبة. ان التحدي الأمني الذي تشكله بيونج يانج علي طوكيو يفوق في وقتنا ذاك الخطر القادم من الصين في المضمار العسكري والاقتصادي والسياسي. وقد تصادف يوم وصولي للعاصمة اليابانية في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي مع وقوع الهجوم الذي شنته كوريا الشمالية بالمدفعية علي جزيرة كورية جنوبية تقع علي خط الهدنة المقسم لشطري كوريا, وتابعت عن كثب رد الفعل الياباني عليه الذي اكتنفه التوتر والخوف والصدمة. فإن كان الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية قد تجاسر وتجرأ فهاجم الأشقاء في الشطر الجنوبي فما الذي سيحول بينه وبين مهاجمة اليابان التي تقع كل محافظاته في مدي الترسانة الصاروخية لكوريا الشمالية ولن تكترث بيونج يانج حينئذ كثيرا لوجود القوات الأمريكية المنتشرة في قواعد بكوريا الجنوبية واليابان لأنها متيقنة ومتأكدة من محدودية الخيارات المطروحة مقابل الولاياتالمتحدة ومعها البلدان الحليفة لها في شمال شرق آسيا, وهو ما سيفرض عليها التفكير عشرات بل مئات المرات قبل ان تقرر مغادرة المسار الدبلوماسي وإبراز عضلاتها العسكرية لخوض حرب في شبه الجزيرة الكورية يعلم الجميع مسبقا ان الكل سيخرج منها خاسرا وسيكتب عليه دفع فواتيرها الباهظة لأعوام مقبلة. وتتشكك بعض الجهات النافذة في دوائر صناعة القرار اليابانية في الجدية المتوقع ان تتصرف بها أمريكا مع طوكيو إذا تعرضت لهجوم كوري شمالي, الشك جعل اليابان تبحث عن البدائل المتاحة أمامها للرد إن هوجمت من جهة كوريا الشمالية في لحظة جنون أو انفعال غير محسوب ومنتظر. ومما يزعج اليابان في عملية المفاضلة بين البدائل المناسبة للوقوف في وجه الخطر الكوري الشمالي ان مشكلاتها مع بيونج يانج لا تنحصر ولا تتوقف عند امتلاكها قدرات نووية متزايدة لكنها تتعداها إلي أمرين يعوقان ويعرقلان التقارب والتفاهم بين البلدين ويجعل منهما حاجزا مانعا لتحسين علاقاتهما. الأمر الأول يتصل بدعوي بيونج يانج المستمرة لطوكيو بتسوية حساباتها المؤجلة والشائكة مع تاريخها حينما كانت تحتل كوريا ما بين1910 و1945 فكوريا الشمالية لاترغب فقط في الحصول علي اعتذار رسمي منها وإنما أيضا دفع تعويضات لها, في حين يعلن ويكرر الجانب الياباني بلا ملل انه سوي هذه المشكلة في منتصف الستينيات من القرن الماضي عندما دفع تعويضات للشطر الجنوبي فالقضية بالنسبة له منتهية ومحسومة ولا متسع لفتحها. الأمر الثاني يرتبط بناحية إنسانية تضعها طوكيو دائما شرطا لتطبيع العلاقات بين الطرفين, وتتلخص في اختطاف كوريا الشمالية لمجموعة من المواطنين اليابانيين خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين ولا تزال الحكومة اليابانية تصر علي حقها في معرفة مصيرهم بعدما اعترفت بيونج يانج في2002 بأنها اختطفتهم حتي يعلموا جواسيسها اللغة اليابانية وعادات وتقاليد المجتمع الياباني قبل إرسالهم لليابان والتظاهر بأنهم مواطنون يابانيون وأنها عاقبت من فعلوا ذلك. ويشكل الرأي العام الياباني قوة ضغط هائل علي السلطات اليابانية حتي لا تتغافل عن متابعة جهودها واتصالاتها لإجبار الحكومة الشيوعية في بيونج يانج علي الإفصاح عما جري لهم وان كانوا ما زالوا علي قيد الحياة أم ماتوا, وتعتقد الحكومة اليابانية بان يدها مغلولة فإن سعت للاقتراب من كوريا الشمالية خطوة فان مواطنيها لن يسمحوا لها بالمضي قدما فيها لحين كشفها عما فعلته باليابانيين المختطفين. ويشارك كوريا الشمالية في مرتبة الخطر الأول الصين الحاضرة في كل مكان من كوكب الأرض ووصلت لمرحلة من القوة أنها بدأت تطالب بلا مواربة بنصيبها من النفوذ الاقليمي والدولي وتظن ان اليابان أخذت حقها كاملا بتزعمها آسيا لحقبة طويلة مستغلة أدواتها الاقتصادية والمالية وان الأوان حان لتبادل المواقع بحيث تتراجع طوكيو خطوات للوراء لإفساح المجال لها. لكن الخلافات اليابانية الصينية حول جزر' سنكاكو' المتنازع علي السيادة عليها في بحر شرق الصين تعد الأخطر وتابعنا في الشهور الثلاثة المنصرمة ما دار من سجال بينهما بشأنها وهو ما حفز اليابان علي إدخال تعديلات لافتة ومهمة في إستراتيجيتها العسكرية بما يعكس إحساسها بخطر شديد من التنين الصيني في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. التعديلات شملت تحريك قواتها من الحدود مع روسيا في الشمال حيث جزر الكوريل المتنازع عليها بين موسكو وطوكيو إلي المناطق الجنوبية تحسبا لمزيد من الاحتكاكات والتحرشات بين الطرفين في جزر سنكاكو الغنية بثروات طبيعية نفسية. وتشمل كذلك تشكيل وحدات محمولة تستطيع الانتشار السريع والرد في حالات الطوارئ ونقلها بواسطة حاملات الطائرات والسعي لشراء غواصات ومقاتلات جديدة متقدمة. ومع ان الأحاديث لا تتوقف عن ان نجم الصين سوف يسطع أكثر وأكثر فان الكثيرين ممن التقيت معهم في طوكيو يرون ان المعادلة لن تنقلب تماما لمصلحة بكين وان اليابان بمقدورها الصمود في وجه التحدي الصيني نظرا لفوارق عدة تصب كلها لصالح طوكيو سواء بمعيار متوسط الدخل ومعدلات البطالة والفقر والرفاهية الاجتماعية والتقدم التكنولوجي. في الوقت نفسه فان اليابان لا تستخف أو تقلل من قدر التحدي الصيني وتعامله علي انه حقيقة واقعة حتي مع يقينها بأنها ستبقي داخل حلبة المنافسة وليس خارجها. [email protected]