يطرح كثيرا في الآونة الأخيرة أن دور مصر الإقليمي قد إنكمش لحساب دول شرق أوسطية وعربية أخري, مثل تركيا وإيران, وحتي إسرائيل أحيانا, والمملكة العربية السعودية بمكانتها العربية والدينية المزدوجة, وقد شهدنا بالفعل تناميا في دور ونفوذ تلك الدول_ عدا إسرائيل- مقارنة بفترات سابقة في العصر الحديث, وإنما هل كان ذلك بالفعل علي حساب مصر؟ وماذا نفعل للحفاظ علي الريادة المصرية؟ من الطبيعي كمصري كان له شرف تمثيل مصر دوليا مرارا, أن يكون لدي غيرة شديدة علي مكانة ودور مصر, وأهتمام كبير بحماية مصالحها, مع هذا أري أنه يجب أن لا أنجرف وراء من ينتقدون دولا أخري لمجرد أنها تنشط إقليميا, أو من يرون في كل إنجاز مؤامرة ضد مصر, فحتي وإن وجدت مؤامرات, فلن تكون الأولي أو الأخيرة التي تدبر لنا. وأختلف جوهريا مع التيارات الانعزالية التي تدعو إلي الإنكماش والتركيز فقط علي الداخل, لأن الانكماش يعطي للآخرين مساحة أكبر للتحرك والبروز, ويضر بمصر خارجيا وداخليا. يحمل هؤلاء تجارب مصر الخارجية عقب ثورة1952 ومحاولة تحقيق' حلم القومية العربية' مسئولية المشاكل والتحديات التنموية الداخلية المصرية والعربية, ويشيرون علي وجه الخصوص إلي الثمن الكبير لحرب اليمن والأثار الفادحة والعميقة لنكسة1967, للتدليل علي أن هذا الحلم كان خطأ في أساسه. ولا مجال لمحاولة إحياء' حلم القومية العربية' بمفهومه التقليدي السابق, وإنما علينا دخول ساحة المنافسة بنشاط وجدية, وبتصور لشكل المناطق المجاورة لنا من أجل ضمان استمرار الريادة المصرية الإقليمية, خاصة وأن لدينا مزايا عديدة تؤهلنا لمواصلة هذا الدور; منها موقع جغرافي إستراتيجي, وزن وتركيبة ديمغرافية متميزة تشمل نسبة عالية من الشباب, ورصيد تاريخي ثقافي وسياسي وإجتماعي لا يستهان به, بما يسمح لمصر بالتحرك عربيا وإفريقيا وشرق أوسطيا ودوليا بشكل يفوق قدرات دول أخري بالمنطقة. وقد سمحت لنا هذه المزايا أو فرضت علينا في الماضي أن تكون لدينا نظرة مستقبلية وتصور وطموحات للمناطق المجاورة لنا, وأول خطوة واجبة الأن هي أن تحاول مصر قراءة شكل العالم العربي, والشرق الأوسط والمناطق المجاورة لنا خلال العقدين القادمين, في ظل تصورنا لشكل العالم, مع تركيز خاص علي الموارد الإستراتيجية من الغذاء, والمياة, والطاقة, وجذب التكنولوجيات الجديدة, خاصة في مجال تكنولوجيا التوجيه والإتصالات, والتي هي العصب الرئيسي للصناعات المدنية والعسكرية الحديثة, والعنصر المشترك الذي يجمع الدول المتقدمة والبازغة, ويجب أن نضع تصورنا لإحتمالات النزاعات الإقليمية المجاورة, وللعلاقة مع دول الجوار المصري كالسودان, وليبيا, وإسرائيل, وكذلك مع الجوار العربي, ومع الدول المؤثرة عالميا مستقبلا مثل الولاياتالمتحدة, روسيا, الصين, الإتحاد الأوروبي واليابان والهند والبرازيل. وفي إطار هذا التصور, علينا' تعريف' وتحديد متطلبات الأمن القومي المصري وإحتياجاتنا الإستراتيجية بشكل أكثر تفصيلا, وبمنهجية مترابطة, فلا يكفي الحديث عن' الثوابت' أو' حماية السيادة الوطنية', وفقا لمعايير قديمة لتقييم القوة والقدرة علي مواجهتها, تركز علي القوة العسكرية أو المادية فقط, ونظريات' وتوازنات قوة' تعود الي الحرب العالمية الثانية, في الوقت الذي يتم فيه التأثير علي آمال وتطلعات الشعوب عبر الفضائيات دون عبور الحدود, ويتم فيه وضع أسس وآليات دولية للتعامل, علي الجميع مراعاتها بما في ذلك في منظومتها الداخلية, لذا كله, آن الأوان أن تعد مصر مستندا رسميا يعرف ويشرح مفهومها لأمنها القومي علي أن يراجع كل عشر سنوات, لمراعاة المتغيرات الإقليمية والدولية. وبعد تحديدنا لأهدافنا الإستراتيجية وتعريفنا لأمننا القومي, يجب وضع تصور وخطة متكاملة للحركة المستقبلية خارجيا, تتحرك في إطارها المؤسسات المصرية, في شكل ثلاث دوائر متداخلة, توزع فيها دول العالم علي أساس حساسية علاقتها مع مصر, وليس صداقتها معها أو حجمها الدولي, علما بأنه من الطبيعي أن تتشابك الدوائر بين الحين والآخر; الدائرة الأولي' الحيوية' تضم دول الجوار المصري, ودول حوض النيل, والدول العربية, باعتبار ما بيننا قضايا الحرب والسلام والمصالح الإستراتيجية والهوية. والدائرة الثانية' الضرورية' تشمل الدائرة الأولي وتضم إليها الدول المجاورة للمنطقة العربية, وبقية القارة الإفريقية, والولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي, والدول البازغة الجديدة, التي أشرت إليها عاليا, بإعتبار أن كل هؤلاء دول فاعلة عالميا ومهمة بالنسبة للمصالح المصرية الآنية والإستراتيجية. الدائرة الثالثة' التكاملية' تشمل أول دائرتين ويضم إليهما بقية دول العالم, والتي من المهم دوام التواصل معها, لأننا في النهاية نعيش في عالم متكامل, ونشترك معهم في وضع قواعد دولية تلزمنا جميعا. وقد يكون من ضمنها طرح نظرة جديدة للأمن القومي تستند إلي تنشيط وتفعيل نظام' الأمن الجماعي' بميثاق الأممالمتحدة من خلال تبني' توازن المصالح' بدلا من' توازن القوة', وقد نفكر في طرح أفكار ومبادرات بيئية حول حوض البحر المتوسط, أو تصور لمنطقة الشرق الأوسط ونظامها الأمني ما بعد السلام, أو منهجية للتعامل مع إستمرار النزاع العربي الإسرائيلي علي إفتراض عدم التوصل لحل له, أو خطة' تنموية شاملة' جديدة لدول حوض نهر النيل في شكل مصغر لخطة مارشال, أو برنامج يشجع الترابط بين الشباب العربي ويدفعه للتمسك بهويته والمصالح المشتركة, أو إقتراحات لحل مشكلة البطالة... أو برنامج متكامل يشمل خطوات عملية متدرجة لإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. ولكي ننجح في مساعينا المختلفة إقليميا, علينا إستثمار رصيدنا السياسي وجهد قادتنا ومؤسساتنا للترويج لهذه الأفكار, بل حتي بالإسهام ماديا فيها بقدر الإمكان, وبتبني مبادرات لدي المنظمات الدولية والدول الدائنة والقطاع الخاص لتوفير التمويل اللازم وترجمتها إلي حيز النفاذ وتحقيق الأهداف المرجوة منها. وختاما, أعتقد أن نجاح سياستنا الخارجية المستقبلية وضمان إستمرار ريادتنا للمنطقة سيتطلب مواصلة مسيرة الإصلاح السياسي والإجتماعي والإقتصادي الداخلي, لأن الريادة الحقيقية تتطلب' الإعتماد علي الذات', في نفس الوقت الذي نتفاعل فيه مع العالم, حتي نستطيع التحرك بيسر ومرونة, ونواجه المنافسة الشرسة في عالم متعدد الأقطاب, لكي تظل مصر طرفا فاعلا ومؤثرا في عصر تحكمه قوة' المعرفة', مما يفرض علينا الإستفادة الكاملة من مختلف أطياف الشعب دون تفرقة أو إستثناء, وترك العنان الفكري, و تشجيع الإبتكار, والروح الخلاقة, فريادتنا تاريخيا كانت وفي المستقبل ستكون في إشعاعنا الحضاري, وإسهاماتنا الفكرية المتميزة في تحديد توجهات منطقتنا سياسيا وأمنيا وإقتصاديا وإجتماعيا, بما يتجاوز القوة العسكرية والإسهامات المادية.