صاحب المكان هو السلطان الملك الأشرف أبو النصر قنصوه الغوري, ولد في حدود سنة850 ه1446 م, وهو السلطان الرابع والعشرون من سلاطين المماليك الشراكسة, وكان يبلغ نحو الستين عاما عندما تولي منصب السلطنة.. كما أشارت إلي ذلك د. سعاد ماهر.. وكان الغوري في الأصل أحد مماليك الأشرف قايتباي واستمر في خدمته إلي أن أعتقه وصار يتقلب في عدة وظائف إلي أن بلغ أسماها في أيام الملك الأشرف جان بلاط. وفي سنة906 ه الموافق1501 م ولي ملكا لمصر واستمر حكمه لها إلي سنة922 ه الموافق سنة1516 م, حيث قتل في شهر رجب من هذا العام في معركة مرج دابق أمام السلطان سليم العثماني. وكان من أهم صفات الغوري شغفه بالعمارة وحبه لها, فأنشأ الكثير من المباني الدينية والخيرية, ولم يكن اهتمامه بالعمارة مقصورا علي المنشأة التي أقامها بل تعداها إلي ترميم وإصلاح وتجديد كثير من الآثار التي شيدها أسلافه واقتدي به الأمراء, فشيدوا الكثير من المباني التي لا تزال باقية إلي الآن تنطق جميعها بازدهار العمارة والفنون في عصره ازدهارا عظيما. ولعل أعظم ما تركه الغوري من منشآت هو تلك المجموعة الأثرية المتكاملة التي تتمثل في قبة ضريحية وسبيل ومسجد وكتاب ومدرسة وخانقاه( مكان للصوفيين) ووكالة للتجارة وهي الممتدة علي شارع الأزهر.. وتعتبر هذه المجموعة الأثرية أبدع ما خلفه لنا سلاطين دولة المماليك الجراكسة, فقد عني بها الغوري عناية فائقة وبالغ في تجميلها وزخرفتها لكي تزهو علي مثيلاتها المنشأة في عصر قايتباي. وقد أنشأ السلطان الغوري المسجد والمدرسة والقبة في الفترة من سنة909 إلي سنة910 ه الموافق للفترة من سنة1503 إلي سنة1504 م, ويقع المسجد تقابله القبة عند تلاقي شارع المعزلدين الله بشارع الأزهر.. وإلي جانب مدخل القبة يقوم سبيل يعلوه كتاب ويقع خلفها خانقاه ومقعد. ويلحظ الزائر للمسجد وجود صعوبة في التعرف علي مكانه, حيث لا توجد أي لافتة علي الإطلاق تعلو المسجد مكتوب عليها اسم امسجد قنصوه الغوريب وذلك رغم الأهمية البالغة له ولمكانته الأثرية الرفيعة.. وكذلك لا توجد أي إشارة إلي وجوده بالمنطقة, ناهيك عن وجوده وسط عشوائية الباعة الجائلين ومن يفترشون الرصيف الذي يوجد عليه المسجد لبيع بضائعهم من الملابس ولعب الأطفال وغيرها.. نبدأ رحلة الصعود إلي المسجد من خلال سلالم خشبية متهالكة تشعر مع كل خطوة عليها بأنها قد تنكسر وتتهاوي في لحظة.. بمجرد الدخول إلي المسجد, وللوهلة الأولي تشعر بعبق التاريخ وأنك عدت إلي العصر المملوكي فتشتم رائحته في كل ركن: الأسقف العالية والزخارف التي زادتها السنوات ثراء وقيمة تاريخية أثرية ذات طابع معماري خاص.. وإن كان الاهتمام بها وصيانتها فريضة غائبة تماما عن المكان بأسره.. فقط امتدت إليها يد الإهمال.. الإصلاحات تتم في دورة المياه المعطلة.. أتربة تعلو المصابيح والفوانيس ويبدو ذلك من إضاءتها الخافتة وكذلك السجاجيد المتهالكة التي تفتقر إلي النظافة بوضوح.. سيدات يترددن علي المسجد ويسألن عن اسمه وهن يقفن عند مدخله وذلك قبل أن يدخلن لأداء صلاة الظهر مما يؤكد وجود مشكلة في التعرف علي المسجد لعدم وجود أي لافتة.. لايوجد سوي عامل نظافة واحد في المسجد هذا ما يؤكده أحد الأثريين بالمسجد ونادرا ما تتم أعمال صيانة له وتم الانتهاء من ترميمه في سنة2000 أي منذ عشر سنوات.. وهو من المجموعات المتكاملة, حيث توجد به أماكن إقامة للطلاب الذين كانوا يدرسون في مدرسة الغوري التي كان يتم تدريس المذاهب الأربعة فيها: المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي.. كل ما نأمله أن تمتد إلي هذا المسجد العريق يد الاهتمام والرعاية وأن يتم تسليط الأضواء عليه حيث إنه تحفة معمارية بكل المقاييس, حيث إن زخارفه تم طلاؤها بماء الذهب.. وهو بحكم موقعه في منطقة سياحية يتردد عليه الكثير من السياح لزيارته, حيث يدركون قيمته الأثرية الرفيعة.. أما أغلب رواد المسجد الذين يرتادونه فهم من التجار الموجودين بالمنطقة وكذلك من الأهالي وتتزايد الأعداد في أيام الجمعة والأعياد والمناسبات.. أما في أيام الأحد فإن أعداد المترددين تقل بوضوح نظرا لغلق المحال التجارية وغياب أصحابها.. والقراءة في ملفات هذا المسجد العريق تشير إلي أنه آخر مجموعة أبنية دينية كبيرة قبل الفتح العثماني لمصر سنة1517, فقد شيد السلطان قنصوه الغوري في بداية القرن السادس عشر هذه المجموعة التي تشتمل علي جامع ومدرسة ووكالة ومدخل وسبيل وكتاب وخانقاه, حيث كان يقوم طلبة الصوفية بممارسة شعائرهم الصوفية. ونظرا لعنفوان وقوة السلطان الغوري فقد قام باختيار موقع متميز لهذه المجموعة الأثرية المتكاملة علي ضفتي شارع المعز الذي كان أهم شوارع القاهرة في أزمنة العصور الوسطي.. وقد أقيمت هذه المجموعة وفقا لطرق التخطيط السائدة في القرن الخامس عشر وبالتحديد المسجد الذي يتميز بأربعة إيوانات مغلقة تتوسطها قاعة مغطاة, أما المئذنة فلها طابع متميز علي شكل مبخرة يعلوها خمس بصلات بدلا من واحدة مثلما كان سائدا في بقية المآذن في العصر المملوكي.. وقد فقدت إحدي البصلات وتبقي الآن أربع فقط وتعد هذه المئذنة من أروع وأجمل مآذن القاهرة, حيث إنها ضخمة عريقة كالمآذن الأندلسية, أما الخانقاه التي تواجه واجهة المسجد فهي تحتوي علي الضريح الذي كان معدا للسلطان الغوري ولم يدفن فيه أحد وكانت توجد قبة كبيرة تعلو هذا الضريح إلا أنها اندثرت في أوائل هذا القرن.. وكانت مغطاة بالقيشاني الأخضر الذي يندر استخدامه في العصر المملوكي مما جعلها متميزة من مسافة بعيدة وقد زينت من الداخل بزخارف بديعة.. كما أن الضريح يزدخر بألواح الرخام المعشق الذي برع فيه المماليك وأكثروا من استخدامه لعدة قرون.. ويوجد السبيل والكتاب في الركن الشرقي من المبني في النصف المنفصل عن المجموعة وكان يصرف منه الماء مجانا لعابري السبيل.. أما الجزء العلوي فكان يستخدم ككتاب لتدريس دروس القرآن للأطفال.. أما الوكالة التي تقع بالقرب من المجموعة فقد كان لها استخدامان شائعان أولهما أن التجار المسافرين كانوا يستخدمون الأدوار الأرضية لتخزين بضائعهم ويقيمون في الأدوار العليا.. وتنبع أهمية الوكالة من قربها من الجامع الأزهر الذي كان يحيط به مركز تجاري وتعد الوكالة ذات طراز نمطي يتكون من وحدات صغيرة يتوسطها فناء غير مغطي, كما أنه كان أبسط في زخرفته المعمارية من أبنية الخانقاه والضريح والمسجد.. وإذا عدنا إلي الحديث عن المسجد مرة أخري باعتباره أهم ما يميز المجموعة فنجده يتكون من صحن مكشوف مربع تتعامد عليه الإيوانات من جهاته الأربع ويحيط بدائرة الصحن من أعلي شريط كتابي ثم أربعة صفوف من الدلايات الخشبية المرصعة بالذهب, والإيوان الشرقي هو إيوان القبلة وفيه المحراب والمنبر.. الواجهة الشرقية للمسجد بها المدخل الرئيسي الذي يصعد إليه بسلم مزدوج ويؤدي المدخل إلي ردهة مربعة بها بابان أحدهما يؤدي إلي دهليز يوصل إلي حجرة مستطيلة والثاني يؤدي إلي دهليز يوصل إلي صحن المسجد وتعتبر مجموعة الغوري ككل مثالا مشرفا للعمارة المملوكية التي برع فيها السلاطين والحكام لتخليد اسمهم وملكهم..